دين أم سيادة القاضي
وائل قنديل
يقول الخبر المنشور في غير واحدةٍ من صحف السلطة في مصر "تقدم المستشار زكريا عبدالعزيز، رئيس نادي القضاة السابق، بمذكرة إلى مجلس التأديب والصلاحية، طالب فيها بإصدار قرار بقضي بتنحي المستشار زكريا عبدالعزيز عثمان، النائب العام المساعد وممثل النيابة العامة في مجلس التأديب، عن الاستمرار في تمثيل النيابة العامة في القضية التي يحاكم فيها رئيس نادي القضاة السابق، بتهمة لا تقل تهافتاً في وقائعها وأدلتها، عن قضية شهداء عرب شركس، والمتعلقة باتهامه باقتحام مقر أمن الدولة أثناء ثورة 25 يناير، لوجود خصومه بينه وبين ممثل النيابة".
أكد المستشار زكريا عبد العزيز، في مذكرته، إن الخصومة تتمثل في "سب" ممثل النيابة الدين له، ولأمه في نادي القضاة، ومحاولة الثاني الاعتداء عليه، بعد أن رفع منضدة بيده ليضربه بها.
لا تشغل نفسك بالأسى على بؤس الحال الذي انحدر إليه مستوى قضاة الأرض الذين حمّلهم قاضي السماء أمانة إقامة العدل، وصون القيم، ونظافة المجتمع، ودقق في ثلاثة أشياء: أولها، من الشاكي ومن المشكو في حقه. ثانياً، مكان الواقعة. ثالثاً، السياق الزمني الذي حدثت فيه.
الشاكي هو رئيس نادي قضاة مصر الأسبق، في بدايات الألفية، والذي قاد الكفاح ضد تغول حسني مبارك ونظامه على السلطة القضائية، وتزعم تيار استقلال القضاء في العام 2005، والذي كان بمثابة الشرارة التي تجمعت حولها كل عناصر الغضب الوطني من فساد السلطة وتجبرها، وهو أيضا أحد الوجوه البارزة في ثورة يناير، والذي تمت إحالته إلى التأديب والصلاحية، بتهمة الانتماء الثوري، لا سواها، بصرف النظر عما حدث له، ومنه، بعد هيمنة سلطة الانقلاب وثورتها المضادة على المشهد.
ثانياً: مكان الواقعة هو نادي قضاة مصر الذي تحول من قاعدة نضال ضد دولة حسني مبارك، إلى مقر لتجميع استمارات الثورة المضادة، الحاملة للانقلاب العسكري لاستعادة نظام مبارك، ممثلا بعبد الفتاح السيسي، وتوقف عند غربة الرجل عن الكيان القضائي الذي كان يرأسه، وتحوله إلى منبوذ مطرود، من مملكة الغزاة الجدد.
الأمر الثالث، والأهم، هو السياق الزمني، حيث بدأت عمليات محو معالم ثورة يناير الباقية، بالإعدام شنقا، من خلال القصف العنيف القادم من منصات إطلاق الأحكام القضائية، من مختلف الأفرع، مدنيا وجنائيا وإداريا.
المقصود، باختصار شديد، من تكثيف الهجمات على جيوب ثورة يناير، هو إهانة هذه الثورة وتحقيرها والتنكيل، بعد وقوعها تحت الاحتلال، وسقوطها في الأسر، لأسباب عدة، قتلت سرداً وعداً ونقداً، من بينها خيانات كبيرة من قادة ورموز سلموها للغزاة، ومن لم يفعل تصور أنه قادر على أن يلعب دور "ابن خلدون" مع قائد التتار، تيمورلنك، غير أن تتار الثورة المضادة، أكثر شراسة وإقصائية من تيمورلنك، كما أن الرموز إياها أقل أخلاقية وفهماً لحركة التاريخ والمجتمع من ابن خلدون.
ولا يختلف مضمون ما فعله رئيس هيئة محكمة قضية التخابر الثانية، أمس، مع الرئيس محمد مرسي، رئيس مصر الذي أوصلته ثورة يناير، وليس غيرها، لتولي السلطة، حين نهر مرسي وعنفه، وتعامل معه، وكأنه متهم في قضية مخدرات، أو سرقة بالإكراه، لأن الرئيس الخلوق رفع صوته من داخل القفص، كي يسمعه القاضي، وراح يعلمه الأدب ويوبخه، على نحو يظهر معه أن المراد هو إهانة الرئيس، الموقع والشخص، ليس فقط، لأنه رئيس أطيح به من السلطة التي ينتمي لها القاضي، وإنما لأنه رئيس جاءت به ثورة يناير التي صارت توصف لدى نادي القضاة بأنها جريمة ونكسة.
لقد أعدموا العدالة، قيمة ومرفقاً، في مصر، قبل أن يعدموا المعارضين والأبرياء، وقرروا أن يسلكوا وكأنهم اختطفوا وطناً وشعباً، لا تسري عليه القواعد التي حددها العالم للتعامل مع البشر، أو ربما يدركون، جيداً، أنهم باتوا أقرب إلى مجموعة من القراصنة احتجزوا رهائن أعلى بناية، مهددين بتفجير البناية على من فيها، إذا اقترب منهم أحد، لابتزاز المواقف السياسية من جهة، ونوعاً من ممارسة لعبة خفض الأسقف، من ناحية أخرى، بحيث ينخفض مستوى المطالبات من إعادة ديمقراطية مختطفة، إلى مجرد تخفيف أحكام الإعدام الجماعية.
وأظن أن فحوى الإدانات، والانتقادات الدولية، لممارسات السلطة في مصر تكشف أن العالم بدأ يدرك أن هذه سلطة، لا تشكل خطراً على شعبها فقط، وإنما صار وجودها عبئا على الحضارة وعلى الإنسانية، وأن المسألة لم تعد تنحصر في إنقاذ المئات من الإعدام ظلماً، بل في إنقاذ الإقليم من نظامٍ أثبت أنه الأكثر عداء للحياة، والأكثر خطرا على المنطقة.
ويبقى أن يدرك الذين دعموا هذا النظام بالأرز والسياسة، في بداياته، أنهم زرعوا غابات من الأشواك تحت أقدامهم، هم أنفسهم، ولولا معوناتهم بغير حساب، لما وصلت المنطقة كلها إلى هذه المرحلة من الخطر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق