جريمة القديح: الحريق.. والذهب!
أحمد بن راشد بن سعيّد
فُجعت السعودية يوم الجمعة الماضي بتفجير دموي في مسجد ببلدة القديح شرقي البلاد، أسفر عن وقوع ضحايا بالعشرات، وكان المفجّر مواطناً قضى نحبه في الانفجار.
جريمة متكاملة الأركان في وضح النهار، ولا شك ألبتة في دناءتها ووحشيتها، ولم تعهد المملكة مثل هذا النوع من التفجيرات التي رأينا الكثير منها في باكستان والعراق.
إنها نمط غريب على المجتمع السعودي، وهو ما يجعلنا نرى أنها «دخيلة» و «مستوردة» أو «معدّة» سلفاً في الخارج؛ من أجل خلط الأوراق في الداخل.
المملكة في حال حرب. ثمة عمليات عسكرية متواصلة في الجنوب ضد عدوان حوثي في اليمن مدعوم من إيران.
المملكة في حال حرب. ثمة عمليات عسكرية متواصلة في الجنوب ضد عدوان حوثي في اليمن مدعوم من إيران.
وفي الشمال تتعرض بعض المناطق كمدينة عرعر لاعتداءات بين الفينة والأخرى تنفذها ميليشيات عراقية مرتبطة بإيران.
وفي الشرق، ثمة أقلية شيعية عاشت في سلام ووئام مع الأغلبية السنية قروناً متطاولة، لكن إيران التي تتربص بالبلاد الدوائر تسعى إلى إشعال الفتنة هناك.
عقلية فارس التي عُرفت منذ القدم بشغفها بالمكائد، وأصابعها التي عُرفت دائماً بسفك الدماء خدمة لمصالحها الإمبريالية، هي من يقف وراء جريمة القديح. لكن لا بد أن يكون المنفذ سنياً، بل منتمياً إلى منطقة نجد، حيث خرجت «الوهابية» كما يحلو للخطاب الإيراني أن يصف المنهج السلفي السائد في البلاد، والذي يشدد على أولوية العقيدة، ومنها «الولاء والبراء».
ولكي تكتمل الصورة، فلا بد أن يكون اسمه مشتقاً من هذا التصور، فوقع الاختيار على «أبو البراء النجدي» (في رواية: أبو عمار النجدي). وفي النهاية، خرج تنظيم الدولة (داعش) ليعلن أن جندياً «انغماسياً» من «جنود الخلافة» فجّر نفسه في «جمع خبيث للرافضة المشركين».
لم يُسدل الستار، بل بدأ العرض. استغلت إيران الحادثة، فاستنكرتها وزارة خارجيتها داعية الرياض إلى «مواجهة التنظيمات الإرهابية والمتطرفة، والابتعاد عن المغامرات الخارجية» التي تكبّد شعوب المنطقة «تكاليف لا تُعوّض».
لم يُسدل الستار، بل بدأ العرض. استغلت إيران الحادثة، فاستنكرتها وزارة خارجيتها داعية الرياض إلى «مواجهة التنظيمات الإرهابية والمتطرفة، والابتعاد عن المغامرات الخارجية» التي تكبّد شعوب المنطقة «تكاليف لا تُعوّض».
رمتني بدائها وانسلت؟ لا، تقول قناة «نبأ» الشيعية، الموجهة إلى المنطقة الشرقية في المملكة، والتي تبث بترخيص لبناني رسمي من الضاحية الجنوبية في بيروت.
السعودية هي من ينطبق عليها المثل: «رمتني بدائها وانسلت»، والداء، بحسب القناة» هو «داء الفكر المتشدد، وحواضن الفكر التكفيري المعشعش في خلايا هذا النظام منذ نشأته»، واتهام الإعلام السعودي إيران بالمسؤولية عن تفجير القديح هو «آخر إبداعات هذه المنابر التي كانت تنشط بالأمس في ميادين التحريض المذهبي والشحن الطائفي».
بعض السعوديين المهووسين بجلد الذات، والمهجوسين بكراهية الإسلاميين في طول الكوكب وعرضه (يوسف أبا الخيل، طارق الحميد، محمد المحمود، هم فقط بعض الأسماء) تماهوا مع الخطاب الإيراني ملقين باللائمة، كعادتهم، على «التطرف الطائفي» الذي يمارسه ناشطون ودعاة ومشايخ ضد الشيعة في البلاد.
لم ينس هؤلاء أن يعرّجوا على مناهج التعليم التي مافتئت «تحرّض»، بحسب تعبيرهم، على «الكراهية والتكفير»، وتؤسس سياقاً «دوغمائياً» يدّعي وحده تمثيل الحقيقة، ويهيء المسرح لجرائم طائفية ضد الشيعة.
ولم يكتف «الوطنيون» السعوديون بذلك، بل قاموا بنبش نصوص، أو حتى تغريدات قديمة في الوسائط الاجتماعية دوّنها مثقفون وأكاديميون، ليوجهوا إليها تهمة التحريض على مذبحة القديح.
ولم يبق إلا أن يستشهدوا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية ليدللوا على أن الإسلام بطبيعته دين إرهابي، ولا يقبل غير «حذف» الآخر.
مرة أخرى، يلتقي خطاب هؤلاء مع الخطاب الإيراني الذي وجّه أصابع الاتهام إلى المناهج التعليمية، كما عبرت عن ذلك منظمة في واشنطن تسمي نفسها «شيعة رايتس ووتش»، طالبت المملكة بمراجعة مناهج التعليم لاحتوائها «على مواد تحرض على العنف والكراهية والعنصرية ضد الطوائف الاسلامية...والديانات السماوية الاخرى».
وفي مصر، خرجت أبواق الدعاية الرسمية (إبراهيم عيسى مثالاً) لتلوم المناهج «الوهابية»، والثقافة «السلفية» السائدة على حادثة القديح، بل تحمّلها المسؤولية عن «إغراق» المنطقة كلها بالتكفير والإرهاب والدم.
ثم تُوّج المشهد بخاتمة أرادها المخرج فيما يبدو منذ البداية: دعوة رجل دين في القطيف اسمه طاهر الشميمي إلى تأسيس «حشد شعبي» في البلاد على غرار الحشد الشعبي في العراق؛ من أجل حماية «أتباع مذهب أهل البيت» في المنطقة الشرقية، بحسب تعبير وكالة أنباء فارس التي طارت بالخبر واصفة الشميمي بعالم الدين السعودي.
من المهم جداً في أزمة كهذه، أن تحتفظ الأمة بتوازنها، وألا تنساق إلى الضغوط محتكمة إلى النظام والقانون. يجب ألا نرضخ للدعاية المضادة سواء كانت خارجية أم داخلية، وألا نسمح أبداً بإدانة ثقافتنا وتاريخنا كما حصل بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والتي انكفأت بعدها السعودية على نفسها ما وفّر أفضل فرصة تاريخية للتوسع الإيراني.
من المهم جداً في أزمة كهذه، أن تحتفظ الأمة بتوازنها، وألا تنساق إلى الضغوط محتكمة إلى النظام والقانون. يجب ألا نرضخ للدعاية المضادة سواء كانت خارجية أم داخلية، وألا نسمح أبداً بإدانة ثقافتنا وتاريخنا كما حصل بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والتي انكفأت بعدها السعودية على نفسها ما وفّر أفضل فرصة تاريخية للتوسع الإيراني.
الزعم بأن ثقافتنا مسؤولة مسؤولية كاملة عن العنف الأعمى الذي يُمارس باسم الدين هو تسطيح لمشهد معقد، ومحاولة لتشويه المجتمع السعودي وإبقاء الدولة السعودية دائماً في خانة الدفاع. ولنتذكر أن إيران تمارس أبشع أنواع القتل الوحشي في سوريا منذ سنوات مدفوعة بتعصب طائفي مقيت متراكم عبر القرون، ويمتح شرعيته من الثقافة المحليةوالتعليم الديني. ولنتذكر أن المناهج الصهيونية حافلة بكراهية العربي «القبيح» و «القذر» والذي لا حلّ له سوى القتل. ومع هذا، فإن المناهج التعليمية السعودية، على وجه العموم، تخلو من التحريض المذهبي. لقد تعلمت وجيلي في مدارس المملكة، فلم نكره أحداً بسبب انتمائه العرقي أو الديني، ولكن بسبب عدوانه وظلمه؛ تعلمنا قوله تعالى: «إنْ يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً، ويبسطوا إليكم أيديَهم وألسنتَهم بالسوء، وودّوا لو تكفرون»، لكننا تعلمنا أيضاً «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبرّوهم وتُقسطوا اليهم، إنّ الله يحب المقسطين ».
تخرج الملايين من المدارس السعودية عبر السنين، فلم يتحولوا إلى إرهابيين، ولم يفجّروا أنفسهم في الأبرياء، وكانوا خير رسل لوطنهم، وخير مواطنين. هذا لا يعني بالطبع رفض تطوير المناهج، ولا عدم محاسبة المتورطين في حادثة القديح، كما لا يعني رفض إصلاحات سياسية حقيقية ومستحقة منذ زمن تكفل تحقيق الاستقرار، وتدعيم الجبهة الداخلية.
يجب أن يعتز السعوديون بثقافتهم بعيداً عن التعصب للآراء وتقديس أصحابها، وأن ينفتحوا على المدارس المختلفة ضمن السياق الرحب لهذه الثقافة. لكن التحذير من بعبع الطائفية لا يعني أن نبقى جهلاء بانحرافات أديان غير الإسلام، أو مذاهب وعقائد محسوبة على الإسلام، وما هي إلا كارثة على الإسلام والمسلمين.
للجمهور حق المعرفة، ولا يجوز أن يُقدّم التجهيل والتضليل بصفتهما سبيلاً للتنوير أو الحفاظ على النسيج الاجتماعي. كما يجب ألا ترهبنا لافتة الطائفية (تشبه لافتة «معاداة السامية» التي ترفعها إسرائيل في وجه من ينتقد إرهابها)، فتفتّ في عضُدنا ونحن نقارع التغول الفارسي الصفوي في اليمن والشام.
إن الانتصار على مخططي جريمة القديح ومنفذيها يكون برفض استغلالها لتحقيق مآربهم. المحنة لا تزيد الأمة العظيمة إلا تألقاً، تماماً كما تفعل النار بسبائك الذهب.
• @LoveLiberty
• @LoveLiberty
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق