الأربعاء، 20 يوليو 2016

الشعب التركي يدافع عن نفسه

الشعب التركي يدافع عن نفسه
 

عبد الستار قاسم

حياة الشعوب من حياة القائد
أردوغان يصنع أمة
بين تركياومصر
تداعيات الحدث



يذكرنا تصرف الشعب التركي حيال الانقلاب العسكري بتصرف شعب فنزويلا عندما انقلب العسكر على شافيز، لقد هبت الجماهير في تركيا كما هبت في فنزويلا دفاعا عن خيارها الانتخابي، دفاعا عن أصواتها وعن الذين أفرزتهم صناديق الانتخابات ليتولوا مسؤولية إدارة الشؤون العامة.

لقد نجحت جماهير فنزويلا بتحرير شافيز من قبضة الانقلابيين، ونجحت جماهير تركيا ولو جزئيا في القضاء على الانقلاب في مهده.

حياة الشعوب من حياة القائد
الشعوب الحية هي التي تتلمس مشاكلها وهمومها وتشخصها جيدا وتتصور العلاج المناسب وتندفع نحو تصحيح الأوضاع بصورة تلقائية وعن وعي مسبق بأهمية حركة الشعوب في مواجهة الطغيان والقمع والفساد والإفساد.

هناك شعوب حية في هذا العالم وتمتلك من الوعي السياسي ما يكفي لردع الاستبداد والاستعباد والعدوان، وهي ليست بحاجة لمن ينشطر صدره وهو يبث الوعي اللازم للحركة والنشاط، وهناك أيضا شعوب شبه ميتة وبطيئة الحركة وتعاني العجز والكسل والاتكالية، وهي بحاجة إلى الكثير من المنشطات والعلاجات والأدوية لكي تتحرك دفاعا عن دولتها وعن نفسها وحقوقها، والشعوب العربية تندرج غالبا تحت هذا التصنيف. كم من الإذلال والهزائم والإحباطات والمآسي والأحزان أصابت هذه الشعوب، وبقيت تستدعي الذات الإلهية والأنبياء والأولياء ليهبوا لنجدتها وإنقاذها مما هي فيه من كروب وآلام، دون أن تقوم بخطوات عملية لتغيير أوضاعها.

إذا لم تكن الشعوب حية فإن قائدها هو الذي يملك عصا التغيير. فإذا كان القائد متنورا ورؤيته للمستقبل واضحة بوسائلها وأساليبها فإنه يستطيع أن يبث نوره وعلمه ومعرفته وطموحه وتطلعاته في نفوس الشعب فيبدأ بشحذ الهمم والخروج من الانطواء والكسل إلى الحركة والنشاط. وإذا كان القائد خائبا لا رؤية لديه ولا معرفة ولا علم ولا أخلاق، فإن الناس يزدادون خمولا وترهلا وكسلا. في حالتي تركيا وفنزويلا، واضح أن قائدي البلدين قد بثا مشاعر الكرامة والعزة والإباء لدى شعبيهما فقطفا ثمار ما نقلوه للناس.

هناك ثلاثة أنماط تاريخية عريضة للتغيير السياسي وتتلخص بالتالي: التغيير من داخل القصر وهو الأسهل والأقل تكلفة على المستويين المادي والاجتماعي. يقوم الملك أو الرئيس بالانكفاء عن سياساته القائمة لصالح بعد سياسي جديد يتسم بالانفتاح والمشاركة الجماهيرية والحرص على الأموال العامة فيغير طواقمه المدنية والعسكرية ويستنجد بأهل العلم والمعرفة والأخلاق الراقية.

أما النمط الثاني فيعتمد على مفكري الأمة ومثقفيها وكتابها وروادها الذين يعملون على بث الوعي في صفوف الناس وتحريضهم من أجل أن يطوروا استعداداتهم للدفاع عن أنفسهم ومصالحهم. هذا نمط يأخذ وقتا طويلا لكنه يتمخض في النهاية عن ثورة شعبية تخرج الناس من الظلمات إلى النور.

أما النمط الثالث فيرعاه الناس الأحياء الذين لا يسكتون على ظلم ولا يجبنون أمام القمع والقهر والتنكيل. الشعب الحي لا يصبر على ضيم أو ظلم ولا يخضع للإذلال والإهانة والهزيمة فينتفض بقوة لتصحيح الأوضاع أو لتغييرها. روما كانت مثلا على التغيير من داخل القصر، والدول الأوروبية تشهد للمفكرين بجهودهم، وإيران تمثل الحركة الشعبية الصلبة التي أطاحت بالشاه.

هناك حكام لا يدخرون جهدا في احتقار الشعوب وإذلالها وبث روح الخنوع والخضوع فيها، وما أكثر هؤلاء في الساحة العربية؛ هؤلاء ليسوا حكاما حقيقيين وإنما زعماء عصابات شهوانية هوجاء تترنم على آلام الشعوب.

أردوغان يصنع أمة
عانت تركيا الكثير بسبب الانقلابات العسكرية وما جرته على البلاد من ويلات وأحقاد وكراهية وبغضاء. أدرك أردوغان منذ بداية حكمه خطورة بقاء الجيش التركي في مقدمة الحياة السياسية للأتراك، وحاول أن يقلص دور الجيش معتبرا أن حراسة النظام الديمقراطي تقع على عاتق الحكومة وليس على عاتق الجيش، وتدريجيا استطاع أن يحقق إنجازات في تقليص دور الجيش في توجيه دفة الدولة.

لكن الأهم أن أردوغان عمل على صناعة دور إقليمي ودولي لبلاده لتكتسب احترام الدول والشعوب، وكانت سياسة بث الكرامة في نفوس شعبه إحدى ركائز هذا الهدف. لا يمكن لقائد أن يحقق موقعا إقليميا أو دوليا متميزا ما لم يكن شعبه عزيزا وقويا ومحترما وموحدا.

هناك من يختلفون مع أردوغان في بعض سياساته، لكن هذا يجب أن لا يطغى على حقيقة مفادها أن الشعب التركي أخذ يرفع رأسه على المستوى العالمي في عهد حكم حزب العدالة والتنمية. مع هذه السياسة المعنوية المتوافقة مع خطوات عملية، عمل حزب العدالة والتنمية على تحسين الظروف المعيشية للناس. لقد نهض الاقتصاد التركي، وارتفعت مناسيب التجارة الخارجية، وأصبحت تركيا مركزا تجاريا إنتاجيا عالميا تستقطب المستوردين والمستثمرين من كل حدب وصوب. ارتفع مستوى الدخل في تركيا، وبدأت الخدمات تتوفر للناس في كل أرجاء تركيا، ولمس الناس واقعا جديدا أضفى على حياتهم الاسترخاء المادي والمعنوي.

مشكلة أردوغان الأساسية والتي من الممكن أنها حفزت الانقلابيين على الانقلاب وهي استعداؤه لجيرانه ومن هم أبعد من جيرانه؛ بدأ أردوغان يعمل على تصفير مشاكل تركيا مع الآخرين بخاصة أرمينيا واليونان، لكنه انتهى إلى استعداء الجيران في سوريا والعراقوروسيا وإلى حد ما إيران. لقد أخفق كثيرا في اتباع التكتيكات السياسية الملائمة ليجنب تركيا عداوات ليست بحاجة لها، وأخفق أيضا في سياساته الداخلية تجاه الأكراد ولم يقم بما يلزم من أجل تجنيب تركيا الأعمال الإرهابية. وبالرغم من هذا حاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة على ثقة الناس.

بين تركيا ومصر
يصاب العربي بالغيرة عندما يرى شعوبا تدب فيها الحياة بينما يبقى العرب يجترون آلامهم وأحلامهم دون أن يحركوا أنفسهم نحو إنجاز هدف. بالأمس جرى انقلاب في مصر على أول رئيس مصري منتخب مباشرة من الشعب المصري، لكن الشعب المصري لم يتدفق إلى الشوارع دفاعا عن صوته.

هناك من لم يحب مرسي، وهناك من نقم عليه، وهناك من ظن أنه يقود مصر إلى الهاوية، لكن كل هذا يتآكل ويتقلص أمام المبدأ الذي وقف معه مثقفو مصر وكتابها ومفكروها وهو مبدأ الديمقراطية. لقد دافع الناس عن الديمقراطية على أساس أنها تفتح المجال للحريات وتقيم بيئة مناسبة للتقدم والنهوض، لكن تمسكهم بهذا المبدأ انهار مع أول اختبار على أرض الواقع.

وكان السؤال المطروح: ما الأهم: مناهضة مرسي والتخلص منه أم الدفاع عن الديمقراطية وحرية المواطن المصري؟ في مصر، تخلى المثقفون والمفكرون والكتاب في أغلبهم عن المبدأ لصالح الرغبة، وكان ذلك خطأ كبيرا ألحق الأضرار بمصر. المبدأ يعلو دائما على الرغبة، ويجب ألا تستحوذ الرغبة على المبدأ لما في ذلك من مخاطر على المستويات الثقافية والفكرية والسياسية. تم تحشيد الشعب المصري ضد مرسي، ولم يخرج الناس إلى الشوارع دفاعا عن مرسي، واستقوت الدبابات والمدافع الرشاشة على الناس وأهلكت أعدادا كبيرة منهم.

الأمر في تركيا مختلف، وكان منظر الناس مذهلا وهم يتدفقون إلى الشوارع دفاعا عن نظام حكمهم؛ خرج الناس يدافعون عن أنفسهم، عن أصواتهم وعن صناديق الانتخاب.. كان من الممكن أن ينفعل الناس وينجروا وراء وعود الانقلابيين لكنهم تريثوا ولبوا نداء رئيسهم في الخروج إلى الشوارع. التمسك بمبدأ الديمقراطية أرقى توجها من التخلص من أردوغان مهما كان الموقف منه. مسايرة الانقلاب يهدد الديمقراطية التركية، ويهدد مستقبل تركيا لفترة طويلة من الزمن، ويغرق البلاد من جديد في حالة فوضى. وقد جربت الأمم الاستبداد وغياب صناديق الانتخابات النزيهة، والشعب التركي اتعظ بتجارب الآخرين.

تداعيات الحدث
بداية هزت الأحداث مكانة وصورة الرئيس التركي إلى حد ما، ومن المحتمل أن تدفعه لمراجعة سياساته بخاصة على المستوى الخارجي، وبالتحديد فيما يتعلق بدول الجوار. لقد بدأ أردوغان بالتخفيف من حدة سلبيته تجاه عدد من الدول، لكنه للأسف بدأ بالكيان الصهيوني. روسيا هي الأولوية لما لها من مكانة عالمية ومن وضع اقتصادي متميز. وبالرغم من أن أردوغان قد فقد جزءا من هيبته لمجرد حدوث انقلاب، إلا أن مكانته تعززت بخروج الجماهير دفاعا عن النظام القائم.

من المتوقع أن يستمر أردوغان في مشروعه إصلاح ما أفسده من علاقات تركيا مع الآخرين، وربما يدير وجهه صوب العراق وسوريا وإيران، ومن المحتمل أن يعود إلى سياسته القديمة القائمة على أن دول المنطقة العربية الإسلامية هي الدول الحاضنة لتركيا وليس بالضرورة الدول الغربية. ليس من السهل أن يعود أردوغان إلى سياسة صفر مشاكل، لكن من الممكن أن يتبنى سياسة التخفيف من المشاكل والتقليل من عدد الأعداء.

ولكن هل من الممكن أن تكون للحدث تداعيات على العرب؟ ليس من السهل تغيير السياسات التركية المتبعة منذ عام 2011، لكن الداخل التركي سيكون أكثر وعيا بسياسة تركيا الخارجية، ومن الوارد جدا أن يساهم الرأي العام التركي في إعادة صياغة العلاقات بين بلادهم وكل من سوريا والعراق.

لكن هل سيتعلم العرب الدرس ويحرصون على التمسك بالمبدأ كما فعل الأتراك؟ واضح أن الوعي السياسي لدى الأتراك أرقى من الوعي السياسي لدى العرب. نحن العرب ما زلنا قابلين للخداع السياسي ويمكن أن ننجر بسهولة وراء الخطابات الانفعالية والنارية.

لقد نجحت القيادة التركية في رفع مستوى الوعي لدى جماهير الشعب التركي، وبثت في الناس بعض مشاعر الكرامة والفخار، لكن قادة العرب غير قادرين على بعث الوعي لدى الناس لأنهم هم بحاجة لمن يبث الوعي في نفوسهم وعقولهم. نحن نعاني، لكننا لا نملك حتى الآن الأسلحة الفكرية والمعنوية للوقوف جماعة ضد الظلم والطغيان والتهميش.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق