السبت، 23 يوليو 2016

السود الأمريكيون وما وراء العنصرية

 السود الأمريكيون وما وراء العنصرية



عامر عبد المنعم

تكشف احتجاجات الأمريكيين السود ضد العنصرية أن المجتمع الأمريكي لم يتخلص من التعصب العرقي رغم الإنجازات المادية التي تحققت، ورغم وصول رئيس أسود إلى البيت الأبيض؛ فشعارات الستينيات من القرن الماضي ضد التمييز العنصري عادت إلى الواجهة من جديد، ورفع أصحاب البشرة السمراء لافتات تطالب بالمساواة وبوقف قتل السود في الشوارع على أيدي ضباط الشرطة البيض، والتطور الأخطر هو الرد المسلح الذي قام به شاب أسود فقتل 5 ضباط بيض وبوادر صدام متصاعد بين المتعصبين من الطرفين.

العنصرية جزء من ظاهرة العنف داخل المجتمع الأمريكي، الذي تم تأسيسه على أفكار الصراع مع الآخرين، واللجوء دائما لخيار المواجهة والصدام على حساب التلاقي والحوار، وإطلاق العنان للتسلح سواء للفرد أو للدولة وعسكرة المجتمع لمواجهة الأعداء في الداخل والخارج.

وهذه الأفكار مرتبطة بعقيدة نهاية الزمان والعودة الثانية للمسيح التي يعتنقها المحافظون ، وتشكل الإطار العقدي والفكري للرجل الأبيض منذ تأسيس المهاجرين البيوريتان للولايات الأمريكية، وهذه التصورات قائمة على سلسلة من الحروب العالمية كضرورة لعودة المسيح إلى الأرض.

 منذ تأسيس الولايات المتحدة والسلاح هو وسيلة إنهاء الخلافات، وبسبب حب الصراع والرغبة في قهر الآخر شهدت الأرض الأمريكية إبادة الهنود الحمر والتخلص من السكان الأصليين لإخلاء البلاد للوافدين الجدد، ولم يكن الهنود الحمر هم وحدهم ضحايا العالم الجديد؛ 
فالسود الذين تم جلبهم من أفريقيا كعبيد كان لهم قصة مأساوية لا تقل بشاعة، وما يجري من احتجاجات الآن يؤكد أن ثأر العبودية المؤجل لم ينسى رغم مرور الزمن. 

لقد نشأت أمريكا على أكتاف ملايين الأفارقة الذين كان يقوم الغربيون باصطيادهم من أفريقيا ويتم شحنهم في السفن لخدمة الرجل الأبيض، وروى السودُ الأرضَ الأمريكية بدمائهم كي تنمو المحاصيل وتدور المصانع وينتعش الاقتصاد، ولا يمكن تجاهل أن الكثير من السود الذين اختُطفوا من القارة الأفريقية كانوا من المسلمين.

الأمريكيون وحرب الذات

مع تزايد النزعة العدائية للرجل الأبيض في الوطن الجديد اكتوى الأمريكيون البيض بنار الصراع، فيما عرف بالحروب الأهلية، حيث كان منطق القوة هو السائد في كل شيء؛ القوي هو الذي يحكم وهو الذي يفرض كلمته، واللجوء إلى العنف لحسم أي نزاع هو الخيار الوحيد.

 لقد تقاتل الأمريكيون وقتل بعضهم بعضاً، وكانت خسائر الحروب بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية فادحة، وبلغ عدد القتلى من الطرفين 620 ألفاً، من بينهم 360 ألفاً من الشمال و260 ألفاً من الجنوب. ودمرت الممتلكات والمزارع وفسدت الصناعة والتجارة، وهلك المدنيون من رجال ونساء وأطفال.

ما حدث في المعارك لا يعطي انطباعاً بأن القتال كان يدور بين أشقاء من دم واحد. فكلا الطرفين كان حريصاً على إفناء الآخر. 

هذا الكم من القتل الذي شهدته أمريكا ربما لا نجده بهذا الشكل في أي بقعة أخرى؛ فالسلاح يستخدم منذ اليوم الأول لنزول المهاجرين، والحقيقة التاريخية أن استخدام السلاح كوسيلة وحيدة لحسم أي خلاف ظاهرة مرتبطة بالمواطن الأمريكي. 

وقد توارثت الأجيال حمل السلاح ليصبح حقاً أصيلاً لكل مواطن، لا تستطيع أي حكومة أمريكية تقييده كما هو في باقي العالم. وترتب على شيوع هذه الظاهرة أن أصبحت المدن الأمريكية أقل أمناً، فحوادث القتل والعنف اليومية بها لا تُقارن، وتشهد المدن الأمريكية أعلى نسبة من الجرائم الجنائية على المستوى الدولي. 

القنبلة النووية

ويكشف هذه النزعة العدوانية استخدام الأسلحة الأشد فتكاً في الحروب المعاصرة المعروفة بأسلحة الدمار الشامل. فقد شهد القرن العشرون أول استخدام للسلاح النووي عندما ألقت أمريكا قنبلتين على هيروشيما ونجازاكي على الرغم من أن إلقاءهما لم يكن ضرورة عسكرية؛ حيث إن اليابان كانت قد استعدت للاستسلام. 
وتكرر استخدام أسلحة الدمار في الحروب الأخيرة؛ ضد المدنيين العراقيين، ومازال القصف وتجريب الأسلحة يجري في العراق وسوريا.

إن هيمنة الغرب العسكرية والسياسية والثقافية أعطت مشروعية مزيفة لأفكار الصراع والرغبة في إبادة الآخر، بتقديمها في صور مقبولة من خلال الإعلام والفنون، وتم تكرار الضرب على هذا الوتر؛ لتبرير السلوك العدواني وإعطائه مسحة أخلاقية للتأثير في وعي الآخرين، ولإقناع الذات بصحة ما يرتكبه تهرباً من تأنيب الضمير .

من يتابع الثقافة الأمريكية المعاصرة يلحظ تقديس الصراع كخيار وحيد في التعامل مع الآخرين. 
وتؤكد الفنون والهوايات المعاصرة والظواهر الأخلاقية أن الأجيال الجديدة توارثت هذه الروح المتمردة، وسيطرت عليها ذات الفكرة، وكأنها كالدم يجري في العروق لا تندثر مع مرور الزمن.

الفنون والحرب

الفنون الأمريكية المعاصرة على الرغم مما بها من تنوع وازدهار وإبداع؛ فإن لها اهتماماً متزايداً بفكرة الصراع . فالإنسان الأمريكي يهتم كثيراً بالقوة البدنية الخارقة، وينظر بإعجاب للأعمال العنيفة، ويألف رؤية الدماء ومشاهد الألم. ولإرضاء هذه الرغبة لدى الجمهور تضخ شركات الإنتاج السينمائي الأمريكية مظاهر وصور العنف وكأنها رسالة سماوية. 

إن الكثير من الأعمال الفنية هي تلك التي تدور حول القتل والدمار؛ فالسينما الأمريكية قدمت للعالم شخصيات «الكاوبوي، والسوبرمان، وزورو، ورامبو» كنماذج للإنسان الأمريكي الذي لا يُقهر، ذي القوة المبهرة، الذي يَقتل الآخرين ولا يُقتل. يستطيع البطل الأمريكي الانتصار على عدد كبير من الخصوم ولا يُخدش. ويقدمه الفن مع كل ذلك على أنه بطل وليس قاتلاً. 

ومن أغرب ما أنتجه الإعلام الغربي من نماذج تجسد موضوع الصراع والرغبة في استنزاف الآخرين، شخصية مصاص الدماء «دراكولا» ؛ هذا الكائن الخرافي الذي لا يموت، يعيش على مص الدماء ولديه قوة خارقة، وهذه الشخصية ربما تعبر رمزياً عن نفسية من يعيش على الاستيلاء على ثروات الشعوب.
وحتى عندما انهزمت أمريكا في حروبها مع فيتنام، اختارت السينما شخصية «رامبو» لتجسد صراع الجندي الأمريكي مع نفسه، ومع المجتمع ومع البشرية جمعاء. ولم يكن لرامبو رفيق سوى السلاح، ولم يعرف وسيلة للتعامل مع الحياة إلا القوة والصراع.

الموسيقى والعنف

وبجانب السينما فإن الصراع لامس هوايات الشباب، فإذا نظرنا إلى الموسيقى الغربية المعاصرة نجد أنها أخذت أشكالاً جديدة لم تكن موجودة من قبل؛ فالأمريكيون لم يكتفوا بهذا الفن كما هو، وإنما اخترعوا ألواناً من الموسيقى العنيفة مثل هارد روك، الميتاليك، والروك آند رول. وأصبحت الموسيقى الصاخبة التي تصم الآذان والتي تصاحبها حركات العنف هي الأكثر شعبية، وحتى كلمات الأغاني فقدت معاني السلام والود وجسَّدت دائماً فكرة الصراع. 

لقد تحولت الحفلات الموسيقية إلى ساحات لاستعراض العضلات والحركات العنيفة التي تتخذ أشكالاً هيستيرية في معظم الأحيان، وأصبحت طبول الحرب المزعجة مكوناً أساسياً في منظومة الآلات الموسيقية، وأصبح هذا النوع من الصخب الموسيقي يستقطب الجمهور الأكبر من المحبين للترفيه، ولم تعد الصالات الصغيرة تستوعب المشاركين؛ فبدأت الفرق الموسيقية وكبار المغنين للفن العنيف ينظمون الحفلات في ملاعب كرة القدم والساحات الكبرى التي تسع عشرات الآلاف من الراغبين في التنفيس «الصراعي» على أنغام الموسيقى.

 ووسط قرع الطبول والموسيقى المزعجة يتراقص جمهور كبير من البشر ويفرغون الطاقة في حركات عشوائية ويضرب بعضهم بعضاً دون اكتراث، وأصبح من المعتاد أن تشهد هذه الحفلات سقوط مصابين تحت الأقدام، وتعرض البعض لجروح وكسور، الأمر الذي ترتب عليه ظهور أطباء تخصصوا في علاج ضحايا الحفلات الموسيقية، والحضور الدائم بالقرب من المصابين في أرض الاشتباك على قرع الطبول، والانطلاق لممارسة عملهم وسط مخاطر الضرب من الراقصين المتصارعين! 

وإذا تركنا الفنون سنجد أن هوايات الأمريكيين العنيفة برزت في مجال الرياضة أيضاً، إذ زادت شعبية الهوايات التي تتوافق مع هذه النزعة الصدامية. ومن الملفت أن الرياضات العنيفة التي لا تلقى حماساً كبيراً في أنحاء العالم نمت وانتشرت في الولايات المتحدة، وهناك رياضات عنيفة عديدة توجد في أمريكا فقط، ولا وجود لها في باقي الكرة الأرضية. 

الرياضة والصراع

فقدت الرياضة بين ممارسيها حس الترفيه والمتعة، وتحولت إلى صراع من أجل النصر، ويعكس نوعُ المسابقات الرياضية التي تحظى بأكبر جمهور في الولايات المتحدة ميولَ المواطن العادي ، وما يدور في مخيلته وعقله الباطن، فقد نمت المصارعة الحرة التي تعد من الرياضات الأكثر عنفاً في أمريكا بالمقارنة بباقي العالم، وهي بمثابة تقنين لتعارك «فتوات» الشوارع الأمريكية، ونقل القتال إلى حلبة وسط جمهور متحمس للأقوى مع وضع بعض الضوابط لإضفاء المشروعية على هذه الرياضة التي تتميز باستعراض القوة، وتنتهي بسحق أحد المتصارعين.
 ونفس الأمر مع الملاكمة التي نمت في أمريكا وصارت من أهم الرياضات التي تحظى بالمشاهدة، ويتقاضى الملاكمون أعلى المكافآت، وإذا تركنا حلبة الملاكمة ونظرنا إلى كرة القدم نجد أنها غير تلك التي يعرفها العالم، فهي تعتمد على المصارعة والاشتباك واستعراض القوة، ومن الملفت أن الولايات المتحدة التي تعلي من شأن الرياضات التي ترتبط بالقوة البدنية لا تجد لها قدماً في مسابقات كرة القدم التقليدية التي تعتبر اللعبة الشعبية الأولى في العالم.

هذه الأمثلة تؤكد أن روح الصراع في المجتمع الأمريكي تظهر في كثير من المجالات، وأنها تصبغ العديد من مناحي الحياة، وبقدر ما حققته الولايات المتحدة من انجازات على الساحة العالمية فإن هذه النزعة الصراعية قد تفسد الداخل الأمريكي وتعيد أجواء الحرب الأهلية، لكن هذه المرة لن تكون إبادة الآخرين ممكنة، في صمت، كما الهنود الحمر، مع وسائل الإعلام الجديد وتصوير الجرائم كما جرى في الواقعتين الآخيرتين، والأهم أن السود أصبحوا أكثر عنفا حيث طبع عليهم المجتمع طبعته.  

الإرهاصات التي بدأت تظهر في الداخل الأمريكي، وتصاعد وتيرة التعصب كما يبدو من تصريحات سياسيين أمريكيين مثل المرشح الرئاسي دونالد ترامب توحي بأن أمريكا على موعد مع مزيد من الحرائق والانقسامات التي يصعب احتواؤها، ويبدو أن المدنية والتقدم التكنولوجي لم يجلبا الهدوء والطمأنينة وغرس الأمل في غد أفضل ومستقبل أكثر أمناً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق