الأحد، 31 يوليو 2016

سماسرة التفكير خارج الصندوق

سماسرة التفكير خارج الصندوق

خارج الصندوق.. داخل العار


 وائل قنديل
لا أتصور أن التاريخ سوف يسامح ذلك النصّاب الذي احتال على البشرية باختراع خطير، اسمه" التفكير خارج الصندوق"، ذلك الاختراع الذي يمثل الملاذ الآمن لكل تجار المبادرات، وبائعي الكلام، ومقاولي المشاريع الناسفة للجذور.

يستوي في ذلك سماسرة العلاقات الحرام، بين العرب والعدو الصهيوني، وكذلك بائعو تذاكر التعايش الزائف مع مؤسسات الاستبداد والثورات المضادة، الذين يتحولون، بوعي، أو بدونه، إلى أطواق نجاةٍ وفرق إنقاذ، للنظم المستبدّة، ولا يختلف عنهم أولئك الذين يبحثون عن اصطفافٍ تجاري، يهتم كثيراً بالربح والمنفعة، أكثر بكثير من تشبثه بوضوح الغاية، ونبل الوسيلة.

في الموضوع الإسرائيلي، لم تتحمل "الشروق" المصرية مقالاً للكاتب فهمي هويدي، ينتقد فيه أحمد أبو الغيط، أمين جامعة الدول العربية، والاختيار الإسرائيلي المفضل لهذا الموقع، لكنها تفتح أبوابها ونوافذها لكاتب ينتقد أن تبقى العلاقات المصرية الإسرائيلية محصورة "في إطارها الأمني والاستراتيجي، دون أن تمتد إلى إطار أوسع من حيث المصالح والاستراتيجيات لمنطقةٍ تشهد تطوراتٍ عاصفةً، لا تشمل مصر وإسرائيل فقط، وإنما تمتد إلى دول أخرى في الإقليم. ومع ذلك، فإن الذين يتطوعون للحديث في العلاقات المصرية الإسرائيلية لا يرون فيها سوى مجالات الأمن والتعاون الاستخباراتي".

لا يوجد تعريف للكاتب، فقط اسمه طارق فهمي، وبالبحث عنه تجده عضواً في كل المراكز المعنية بالدراسات الإسرائيلية، داخل مصر وخارجها، ويمثل الجيل الأكثر تطوراً وانكشافاً من منتجات ما تسمى "ثقافة السلام"، إذ يتجاوز بطروحاته تلك الصيغ القديمة التي كان يعبر عنها علي سالم وعبد المنعم سعيد وأسامة الغزالي حرب ومكرم محمد أحمد.

يدشن هذا الصوت مرحلة انتقال هادر من "السلام الاضطراري مع العدو" إلى "التحالف الاختياري مع الحليف، أو الكفيل، أو الراعي"، هذا الانتقال هو فرق المسافات بين حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي، أو هو الفرق بين "التطبيع" بوصفه مصلحةً وبراغماتية، إلى الالتحاق الكامل بالمشروع الصهيوني، بوصفه عقيدةً ومبدأ.

يعيب الرجل على العلاقات المصرية الإسرائيلية بقاءها في مرحلة الشكليات، مستعجلاً الدخول فوراً، وبلا إبطاء، إلى العصب "بناء العلاقات المصرية الإسرائيلية في المرحلة المقبلة يتطلب الانتقال من الشكل إلى المضمون، فليس لمجرد تعيين سفير جديد في القاهرة، وآخر مصري تولى منذ أشهر في إسرائيل، يمكن أن تنمو العلاقات وتتطور، في ظل حالةٍ من الصمت على مراجعة أوجه التعاون الناجح في اتفاق الكويز، حيث تطرح أفكار جديدة من الجانبين المصري والإسرائيلي للاستفادة من المتغيرات الجديدة في المنطقة".

الطرح ذاته، لا شك أنك قابلته في التحرّك السعودي نحو الكيان الصهيوني، وطالعته في تصريحات رجل المخابرات السعودي المتقاعد، أنور عشقي، بعد زيارته الميمونة ولقاءاته الحميمية بأعضاء الكنيست الإسرائيلي، وقبل ذلك في زيارة وزير خارجية السيسي، العائلية الدافئة، إلى بيت نتنياهو، ثم الوصول إلى لحظة "صهينة الأعياد الوطنية المصرية"، ليتبادل نتنياهو، وحرمه، مع سفير السيسي، وحرمه، أنخاب الاحتفال بذكرى ثورة يوليو/ تموز 1952، في مشهدٍ ينبغي أن يضعه كل ناصري، وكل جعجاع قومي عربي وحدوي، أمامه، كالمرآة، ويتفحّص ملامحه جيداً، ويسترجع حماسه للتبشير بالنسخة الرخيصة من جمال عبد الناصر التي يجسدها عبد الفتاح السيسي.

هوس مبادرات التفكير خارج الصندوق الذي يستبدّ ببعضهم، فيدفعهم إلى "شرعنة" اغتصاب الحقوق التاريخية، يدفع آخرين إلى السقوط في فخ منح الشرعية للنظم المستبدة التي قامت على اغتصاب السلطة، بقوة السلاح، وكلاهما يركض خلف الفكرة البرّاقة التي تُذهِب العقول وتخطف الأبصار "التفكير خارج الصندوق"، فيصير مطلوباً من الفلسطيني أن ينسى النكبة، ومجازرها، والنكسة ومذابحها، ومن المصري أن يتحرّر من التفكير في ثورته بمبدئيتها ونصاعة جوهرها، وينخرط في صفقاتٍ جديدة، تقوم على منطق الاعتراف بمكتسبات الجريمة، والإذعان للأمر الواقع.
نبتذل مفهوم وحدة العمل العربي، حين يصبح موضوعه الأساس الانفتاح على الكيان الصهيوني، ونهين معنى الاصطفاف الثوري، حين يقوم على اللهاث غير العاقل، والترجمة الساذجة لكل إيماءةٍ ماجنة، أو إشارةٍ بالإصبع من أحد أعضاء فريق مشروع الانقلاب، فتكون النتيجة أننا نشعل النار داخل الصندوق ذاته، تحت تأثير غواية "التفكير خارج الصندوق".
كم من الجرائم ترتكب باسمك أيها الصندوق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق