الخميس، 21 يوليو 2016

تركيا.. كيف وُلدت الديمقراطية الثالثة؟



أمام مشهد الإعجاب والتضامن الوجداني الكبير الذي عاشته شعوب الشرق في ظل هزيمة أخطر انقلاب تعيشه المنطقة، وخاصة من حيث تأثيراته على المشرق العربي، كانتهناك عناصر أساسية ساهمت في هذه العودة الكبيرة للرئيس أردوغان وحكومة حزب العدالة.
لكن العودة هذه المرة ليس من خلال التصويت الحزبي، ولكن بالقرار الشعبي الجمعي بجناحيه الإسلامي والعلماني، وهو ما كان بالفعل أجمل أيقونة لانتصار الشعب التركي وديمقراطيته الثالثة، التي وُلدت فجر السادس عشر من يوليو/تموز 2016.

إن عبارة رئيس الحكومة بن علي يلدريم "أحييكم يا شعبنا العظيم أحيي هتاف مساجدكم وحشودكم التي دعمتنا، أنتم المحمديون الذي آمنوا بالانتصار للديمقراطية وحضرت فيكم روح صلاح الدين الأيوبي"، تعطي مؤشرا لمعنى هذا الميلاد الجديد لديمقراطية الشرق.


هذا المعنى هو الهوية الإسلامية والقرار الشعبي الدستوري، والحداثة التي تُمارس العلمانية، كوعاء إداري وثقافة سلوك دستوري توافقي، وليست قالبا عقائديا يشكّل في ذاته، وهو اليوم يثير مخاوف قديمة متجددة، لدى مركزية المشروع الغربي في منطقة الشرق، والذي لم يَطُل اعتراف الاتحاد الأوربي بخياره الديمقراطي، رغم تكرار حزب العدالة تمسكّه بالعلمانية الدستورية.

فسريعا بدأت مخاوف الغرب تتصاعد وتتحد مع رؤية تل أبيب رغم جسور أنقرة معها، وتشترك مع إيران في أخطر معركة عاشها الشرق المسلم، متعلقة بالميدان السوري، وكانت أنقرة فيه ندا رافضا لمآسي سنوات الثورة الخمس، قبل أن ينهار الميدان ويتداعى عليها الإقليم.

إن نجاح الانسجام الإسلامي العلماني لم يُطمئن الغرب مطلقا، ولم يحقق لهم مساحة رضا، لكون أن هذا الانسجام يعني صعودا جديدا للمشروع الديمقراطي الذي يهدد نفوذهم، والذي جاء بعد ديمقراطية عدنان مندريس الذي أعدمه الجيش في انقلابه الأول.

ثم جاء العهد الديمقراطي الثاني الذي تشكّل فيه تحالف حزب العدالة مع حركة الخدمة التي استطاعت اختراق الجيش والسلك القضائي، فضُمن بتحييدهم النجاة للديمقراطية الثانية 2003، وبقي قطاع غير يسير في الجيش، وأركان العلمانية العقائدية المتطرفة، كارهين يترصدون لحظة تنفيذ انقلاب نوعي يعيد الجمهورية إلى صفرية كاملة في مشروع هويتها، ويعيدها لديمقراطية العسكر المزورة.

وبشأن الانقلاب الحالي قد يقول البعض أو يتساءل مادامت المخابرات التركية ورجلها القويهاكان فيدان -أحد أبرز خصوم واشنطن- قد رصدوا نوايا العمل، وتحركات الانقلاب،فكيف لم يوقفوه؟ وهو قول صحيح وتساؤل في محله، وجوابه أنهم لم يقدروا ساعته أولا، وثانيا لم يكن لدى المخابرات فيما يَرشح للمراقب، قدرة على تحديد كل أنصار الانقلاب الذين أدرجت شخصياتٌ منهم في قرارات الإعفاء، التي أعدت لمجلس الشورى العسكري، ولم يحن موعد عقده.

الأمر الآخر أن البنية الولائية للانقلاب أو الاستعداد لقبوله فورا، كانت أكبر بكثير من المتوقع، وكانت هناك صدمة في أوساط حزب العدالة من حجمه، كما أن توقيت ساعة ويوم الانقلاب لا يبرز مطلقا ولا يعرفه إلا دائرة محدودة من أركان المشروع، وإن كان دعمهم الدولي والإقليمي مؤكدا، وأن هذا الانقلاب أخذ ضوء أخضرا ضمنيا لتحقيقه عبر اتصالات سياسية واسعة دولية وعربية وإقليمية، لا تتعاطى بالضرورة مع مصطلح الانقلاب.


إن تشديد الرئيس أردوغان وحزب العدالة على حركة الخدمة، ليس فيما يبدوا لمركزية قرارها في الجيش، فهذا لا يمكن تصوره، فقيادات الجيش العلماني المصلحية في تركيا، وهي النخبة الموروثة عقائدها من الزمن القديم، ما زالت لا تقبل بهيمنة أي جماعة لها نفَس ديني ولا ديمقراطي مدني وإن تحالفت معها، إنما تقبل ما يتعلق فقط بعقائدها ومصالحها الخاصة، وعلاقتها مباشرة بتل أبيب وواشنطن والناتو، وكتلة العقيدة العلمانية الصلبة وغالبيتها في أوساط الطائفة العلوية.

غير أن حركة الخدمة هي القفاز الناعم الذي تغلغل في سلك القضاء والإعلام والخدمة الاجتماعية والاقتصاد وتحالف علنا مع أي دعوة لإسقاط أردوغان وإنهاء التفوق الحزبي للعدالة، فشكل جسرا مدنيا مهما لقاعدة أي انقلاب.

وكنا نرجح ولا نزال أن فتح الله غولن قد استوعبته كتلة اقتصادية من حركته، نسقت مع الجيش والكونجرس الأميركي، وخاصة اللوبيات المؤثرة فيه، وبالتالي فقطاع التوعية الدينية البسيط، لا ناقة له ولا جمل بمثل هذه الأمور، لكنه في مرمى النيران من الجهتين.

هنا نلحظ كيف أن هذا الكم من الاختراق، لم يكن لحكومة العدالة ولا للرئيس أردوغان أي قدرة على مواجهته، وواضحٌ تزامنه مع الضغط الإقليمي والعربي والغربي المتفق ضد أردوغان، فضلا عن اختراق أمني حساس، وهذا لا يلغي أخطاء وقع فيها العدالة تحتاج إلى معالجة وتصحيح.

ورغم كل ذلك فشل الانقلاب، واستطاعت حركة المقاومة الشعبية الوطنية إفشاله قبل الفجر بعد أن وضع يده على مؤسسات الدولة، ولو أصبح ناجحا ولو لليلة واحدة لانهارت تركيا وكامل تجربتها الديمقراطية.

وهذا النجاح نجمله في العناصر التالية:
1- ثنائية امتصاص الصدمة، بين الرئيس والحكومة، ومباشرة البحث والتواصل مع الشعب والقوى الوطنية والديمقراطية، والنزول الشعبي الاحتجاجي الفدائي في صورة وطنية اجتماعية متحدة ضد الانقلاب، ورفض قرار حظر التجوّل، وحصار القطع العسكرية، وهي أمور أعطت الإشارات الأولى لتعقد العملية الانقلابية.

2- حصيلة العمل الدستوري والثقافة الديمقراطية، وممارسة العمل الحزبي بعيدا عن سلطة الجيش التي هيمنت لعقود، أثرت في البنية السياسية التركية العلمانية، التي تعاملت بواقعية، خاصة -وحسب مواقفهم المعلنة- أن هذه الأحزاب تنظر إلى مآل مصر، كمآل كارثي لكل وطن قومي ومثقفيه، وليس للإسلاميين وحسب.

3- وعليه فقد وجد معسكر الانقلاب صعوبة كبيرة في استقطابهم، والقبول بإسقاط الديمقراطية التي حققت انتعاشا وطنيا، وجده كل فرد، وسريعا تزايد التضامن مع الشعور بتعقد أمر الانقلاب، فالوعي السياسي التركي يُدرك أن الانقلاب إذا لم ينجح في يومه وساعاته الأولى، ففرص عبوره صعبة، خصوصا بعد تصريح قائد الجيش الأول ضده، والذي أعطى مؤشرا مهما، بان الانقلاب لا يمثل المؤسسة العسكرية كلها، بل نخبة مصلحية خاصة.


4- وقد اتضح نجاح الخطة البديل، التي أعدها جهاز المخابرات وخلية الأزمة الخاصة في حزب العدالة، كما أن من المهم للغاية الإشارة إلى عمل المؤسسات الأمنية والشرطية التي والت الدولة والجمهورية، والتزمت بالقرار الوطني والإرادة الشعبية، وما يعنيه ذلك من نجاح كبير جدا، لمعالجة الجهاز الأمني والشرطي وانحيازه صالح إرادة الشعب، لا القمع كما جرى في مصر.

5- كان قرارُ الرئيس أردوغان وخطة تنقلاته تحوي الكثير من المخاطر، ومع ذلك أصر على تنفيذها بشجاعة، وإن كانت حياته معرضة للاستهداف في أي وقت، وفعلا نجح في ذلك، فوصل للشارع مباشرة، ولمطار أتاتورك والتقى بقيادات أمنية وعسكرية موالية، هنا برز فنّ النقل والتغطية لقنوات فضائية خاصة، عمل العدالة على كسبها لسنوات، وكان النقل مصحوبا بتزايد الحشود الشعبية، كرسالة قاتلة للانقلابيين، ومربكة لداعميهم الخارجيين.

6- هنا قررت قيادة الدولة، وفي سرعة كبيرة التركيز على إخلاص الجيش، وأن الخيانة تشمل القيادات الانقلابية فقط، وأن الخصم المركزي هو جماعة فتح الله غولن في حين تعقبت بفاعلية كل المشتبه بهم وشركاء التخطيط، خاصة مع الوصول إلى ملفات خطيرة في التحقيقات الأولية.

تركيا.. كيف وُلدت الديمقراطية الثالثة؟
مهنا الحبيل



إن هذا الميلاد الثالث، يعتبر تاريخا جديدا للجمهورية الديمقراطية الحديثة في تركيا، فهي تُمنح فرصة كبيرة لاجتثاث الدولة العميقة، وتأسيس البعد الدستوري، في ذات الوقت الذي يقف فيه الرئيس أردوغان، وطليعة الحزب وقياداته الرئيسية على خطورة ما يمكن أن يصنعه الفساد، في التوظيف المناهض للمشروع الوطني التركي، مقابل ما عايشوه عيانا من تأثير مسارات نجاح العدالة في كسب القاعدة الشعبية، وليس تجار المصالح الاقتصادية.

وعليه فإن مسيرة مهمة بنفسية أكثر استقرارا وأثبت موقفا، باتت متاحة لصناعة العهد التركي الجديد، الهوية مع العهدة الديمقراطية، مصانة بالإرادة الشعبية ومؤسسة عسكرية، تحمي الإنسان لا المصالح الأجنبية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق