وائل قنديل
لم أكن أتخيّل أنه سيأتي يوم، وأرى مقولة "الشعب هو المعلم" مجسّدةً على أرض الواقع، تلك المقولة التي سمعناها، أطفالاً، ضمن قائمة المحفوظات الوطنية الصمّاء، تحولت على يد الشعب التركي في ساعات الانقلاب العصيبة إلى واقعٍ معاش، يتحرّك على الأرض، فتراه الأبصار وتدركه البصائر.
قيل الكثير في تفوّق الشعب التركي على جميع مكونات الدولة في التصدّي "المبدئي" لمحاولة الانقلاب الدامية، وخلف الشعب سارت النخب السياسية والحزبية، فاكتملت عناصر صورةٍ يمكن تلخيصها في أن الأتراك نضجوا ديمقراطياً إلى الحدّ الذي باتوا معه لا يحتاجون وقتاً للتفكير، أو إجراء الحسابات قبل أن يعلنوا للكافة أنهم يرفضون أن يشربوا الديمقراطية من فوهة مدافع عسكر الانقلاب.
على هوامش الصورة، أيضاً، بل وفي القلب منها، هذه الحاضنة الوجدانية الفسيحة التي احتوت عشرات الملايين من الشعوب العربية، بقيت تتابع وتنفعل وتلهج بالدعاء من أجل انكسار المحاولة، الأمر الذي يؤكّد تنامي حالة الجوع العربي للديمقراطية والممارسة السياسية المحترمة، وفي لحظةٍ اندمجت كل ملفات الوجع العربي، في مصر وسورية وليبيا والمغرب وتونس وفلسطين، لينطلق بثٌّ مباشرٌ لأشواق التحرّر من عسكرة السياسة، وقتل أحلام الربيع الديمقراطي.
ما جرى في تركيا كان إعادة طرح السؤال على المواطن العربي، قبل التركي: هل تريد البقاء داخل اتحاد الدكتاتوريات العسكرية، أم تفضّل الخروج إلى براح الديمقراطية والحداثة؟ والأهم: هل هذا بالإمكان؟
ردّ المواطن التركي بشكل عملي: نعم، نستطيع، وقد فعلها مستفيداً من نتائج التجربة الأليمة في مصر وسورية، وفي الوقت نفسه، أكسب أشواق التغيير العربية زخماً هائلاً، وأنعش آمالها في القدرة على تلافي مصير الانقلابات العسكرية.
وقبل ذلك وبعده، وضعت الدراما السياسية التركية النخب المصرية أمام المرايا، لتتفحّص ملامحها، وتكتشف علامات العجز والترهل، وترى قطاعاتٍ منها في أعينها انكسار خيانتها وخداعها للجماهير التي لم ترحم حالها البائس، وقادتها إلى أحضان العسكر.. نعم، هكذا كانت "30 يونيو" وستبقى، جريمة نخبةٍ عطنة، بالأساس، مارست أحقر وأقدم مهنة في التاريخ على شعبها.
في المجمل، جاء موقف تياراتٍ وشخصيات سياسية مصرية كثيرة، منحازاً للمبدأ الديمقراطي ورافضاً للعسكرة، يتجلى ذلك بوضوح لدى الاشتراكيين الثوريين وحركة 6 أبريل وأحزاب مدنية، خارج حظيرة الانقلاب، بالإضافة إلى شخصياتٍ، لم يدفعها سخطها على أردوغان لتبرير انقلابٍ عليه بالقوة المسلحة. غير أن بعض الأصوات العائدة من الخدمة في بلاط انقلاب عسكر مصر، لا تزال تصرّ على استعلائها الممجوج على الجماهير، فلا يجد أحدهم غضاضةً، وهو يستثمر الأحداث في تركيا، للنيل ممن لا يزالون متمسكين بشرعية الرئيس محمد مرسي، فيهرف بكلامٍ عن أن جماهير الشعب التركي، حين تصدّت للدبابات، لم يكن يشغلها بقاء أردوغان رئيساً، ولم ترفع إلا أعلام تركيا.
يمتعض بعضهم، الآن، من فكرة رفع الشعارات واللافتات، على الرغم من أن أي ثورة في العالم هي شعار، إذا اتفقنا على أن الثورة مبدأ وفكرة، يترجمها الشعار الذي يتجسّد بدوره في إجراءات وشخوص ومؤسسات.. ويدهشك، في هذه الحالة، أن الأتراك أنفسهم لم يجدوا حرجا في رفع شعار "رابعة"، والتذكير بمأساة الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، تحفيزاً للناس على مقاومة المصير نفسه.
نتساءل هنا: هل كان من الممكن أن نتحدّث عن دحر الشعب التركي الانقلاب، لو أن قادة الحراك الجماهيري قالوا للناس: لا تهتفوا بعودة الرئيس المدني المنتخب، حتى لا يطير الاصطفاف، أو أن عودة أردوغان لا تهم، والمهم استعادة الديمقراطية؟.
الأصوات نفسها بدأت عزف اللحن المنقول من النوتة الباريسية، عن معاقبة المجموعات الضالعة في مؤامرة محاولة الانقلاب، من عسكريين وقضاة وسياسيين، تشير القراءات السريعة إلى ارتباطهم بدوائر خارجية، فترى الذين لم تحرّك مشاعرهم أحكام الإعدام على معارضي انقلاب مصر، يذرفون دموعاً كاذبة على احتمالات ذهاب الحكومة التركية إلى إصدار أحكام بالإعدام ضد منفذي الانقلاب.
والسؤال الأهم، هنا، هو هل انتهت مغامرة الانقلاب على أردوغان بالفعل، وحسمت الأمور كلها؟
أظن أن أفضل ما فعله الرئيس التركي هو دعوة الشعب إلى البقاء في حالة احتشاد، واصطفاف وطني حقيقي، على مبادئ وليس على مصالح، في الميادين مدة أسبوع، ولنا في انقلاب خليفة حفتر في ليبيا مثل وعبرة، ذلك أن الجميع تعاملوا مع محاولته الفاشلة في فبراير/ شباط 2014، باعتبارها نكتة، أو قفزة كوميدية لشخصٍ مجنون، وانتهى الأمر، لنفاجأ فيما بعد بتكرار المحاولة ونجاحها.
وأزعم أن الذين صنعوا حفتر ليبيا هم أنفسهم الذين يقفون وراء "حفاترة تركيا"، وهؤلاء لا ييأسون أبداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق