قصةُ مَثَل: ماشي يا لؤي
أحمد عمرسألني نوري عن الأمثال الجديدة، فقلت: المثل مجمع الحكمة والخبرة. قال ابن عباس فيها: "المعاني بها لائحة، والشواهد بها واضحة، والنفوس بها وامقة، والقلوب بها واثقة، والعقول لها موافقة، فلذلك ضرب الله الأمثال". وقلت: إن قصير بن سعيد وأكثم بن صيفي من ضاربي الأمثال.. وإني أعرف صبيةً في بلدتي أرسلت مثلاً كردياً، سارت به الركبان.
فقال: ما هو خال، فالأمثال يقولها الحكماء والكهول؟
قلت: كان في بلدتنا صبية جميلة سحرت أبناء جيلي بجمالها، وهي، إلى جمالها وقدِّها واعتدالها، كانت تغني في المسرح. الصبايا يكبرن بسرعة.
قال خال: يدي في زنارك، لمَ تكبر البنات بسرعة، ونبقى نحن صغاراً محبوسين في زنزانات أحذيتنا؟
قلت له غامزاً: لدى البنات هرمون وراثي خارق اسمه الأستروجين.. وهو الذي يضربنا بالمنجنيق.
تابعت، وقلت: الصبيان، وقد طرَّت شواربهم، ودارت المياه في نواعير الأصلاب، كانوا يقفزون كالعجول حولها، ويلحقون بها، وما إن يخلو بها الصبي خلوةً، حتى يستجديها قائلاً: لله يا محسنة أعطيني قبلة، يقولها وهو يمسك بشفرة "ناسيت" التي تقطع جلد تمساحين متآخيين في المتانة: إذا لم تمنحيني قبلةً سأذبح هذين التمساحين؛ ويضعها على رقبته.
وكانت كليزار حنونة، قلبها رقيق، تعطف على العشاق المحتاجين، وأبناء السبيل، واليتامى، وكل عاشق يتيم.. فلانتْ مرة، ومنحتْ قبلةً لأحد التماسيح، فسعد بها، وأفشى سرِّه للزملاء، فحذا العشاق حذوه، ولحقوا بها في الزوايا المعتمة، وهم يُمسكون بشفرة التمساحين، ويبكون بكاء الحمامة، فأشفقت عليهم جميعاً. وكانت قبلاتٌ على الخد، فلم يكن يُطمع بأكثر منها، فرُميت بالعهر والخنا، ولما بلغتها التهمة، قالت، وهي صبيةٌ لم تؤتَ من الحكمة إلا قليلاً: "ثلاثة أرباع العهر من الحياء"، وشَرحُ قولها: هي أنها ما منحت القبل إلا شفقةً بالذين كانوا يستجدونها.
ولي قصة مع كليزار، يا نوري، وهي قصةٌ عجيبة، إنها بعد أن أدّتْ دورها في إحدى المسرحيات، وكنت أحبُّ سحر الإضاءة في المسرح، وفقراته المرحة، لمحتني، واستطاعت تمييزي من بين الجمهور، وكان الواقفون على خط النار أكثر من الجالسين، فنزلتْ وجلستْ بجواري، وقالت بصوتٍ يقطع تمساحين:
- أأعجبتك المسرحية؟
فقلت لنجمة المسرحية، وقد فهمتُها: لا أحبُّ التسوّل بالشفرات ولا بغيرها.
فكنت مثل السمكةِ العمياء التي أرسل الله لها عصفوراً، يضع حبة القمح بمنقاره في فمها.
ابتسم نوري وقال: قسماً بالله، يا خال، لو عندي مسدس؛ لأفرغت "مشطاً" كاملاً في كبد السماء فرحاً بالذي تقول، إنّ من البيان لسحرا.
وقلت لنوري: المرأة هي جائزة المعركة البشرية، وحولها يدندن المتدينون والعلمانيون، لكن ليس هذا مناط حديثنا، يا نوري، إنما هو الأمثال، وكيف تجري في سواقي الكلام. تزوجت كليزار، بعد سنتين، فالبنات يكبرن بسرعة. وبعد خمسٍ وثلاثين سنة، رأيت صفحتها على "فيسبوك"، ووضعتُ "لايكات" لها، وقد صارتْ واعظةً، ونسي أهل البلدة تهمتها، فالجمال عندنا يغفر ذنوباً كثيرة، وقلت: من مفارقات هذا العصر المنكوب أنّ كثيراً من أمثاله التي سارت أرسلها طلاب مدرسة المشاغبين، مجمع الأمثال، وقلت: إنَّ الله يرزق من لا حيلة له، مثل عبد الفتاح السيسي، حتى يتحيَّر أصحاب الحيل، وهذا حديثٌ موضوع، فالسيسي صاحب حيل كثيرة، لكنه مَثَلٌ لا يخلو من البلاغة. وقلت: إنّ السيسي هو ربُّ الفصاحة المعاصرة، في هذا الزمان الذي قال فيه شعراء النثر: إنه زمان رخو، مثل: الفكَّة، ومثل: صحيح، وأقسم بالله تاني، وماشي يا لؤي.. أمثال ستسير أجيالاً، من غير سكة حديد.
قال: الخلاصة يا خال.. ضيعتني
وكان يحبُّ أن أتمَّ نعمتي عليه بقصة الأستروجين، وقصة العصفور والسمكة، وأروي له مذبحة المماليك والتماسيح البحرية.
قلت: ثلاثة أرباع البطولة في عصرنا من الفجور.
قال: ماشي يا لؤي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق