استعلاء الإيمان
أ. د. جابر قميحة
وعلامَ يغترُّ الآدميُّ ويستبدُّ به الكِبْر؟ إن كان كِبْره لقوة بدنه، فمرضُ ساعة يهدم قوة سنوات، والموت يحوِّل الإنسانَ - في لمحة - من نبض الحياة إلى خمودِ التراب، أيتكبَّر لمالٍ أصاب؟ إن المال أغلاه وأعلاه المُلك، والله هو مالك الملك، يؤتي المُلْك مَن يشاء، وينزع المُلْك ممن يشاء، ويعزُّ مَن يشاء، ويُذِلُّ من يشاء.
هل كان في الأرض أعتى من قارونَ؟ استبد به غرور المال، فأوصَله غرورُه إلى بَغْي الكفر، وانتهى به كُفرُه إلى الدَّمَار.
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 76 - 83][1].
إنها قصةُ الكِبْر الذي يتنكر للقِيَم الإيمانية في كل عصر، فينسى الآدميُّ بشريَّته، ويحاول أن ينازعَ الله حاكميَّتَه، ثم تكون الفاجعة الحتمية والانكسار الذي لا قيامةَ منه.
وكلُّ عصر لا يخلو من "قارونه" أو "قوارينه"، ولو تدبَّر الإنسان المتكبِّرُ قصةَ قارون - كما أوردها القرآن - لخلَع نفسَه من حمأة الغرور، وعاش إنسانًا "رفيعًا" بفضيلةِ التواضع.
ولعلَّ أشدَّ ألوان الكِبْر ما جاء من ناحية النسب، من جهة الآباء والأجداد، وقد عالَج أبو حامد الغزالي هذا النوعَ من الغرور بقولهِ: "فمن يعتريه الكِبْر من جهة النسب، فلْيُدَاوِ قلبَه بمعرفة أمرين:
أحدهما: أن هذا جهلٌ من حيث إنه تعزَّز بكمالِ غيره؛ ولذلك قيل:
لئن فخرتَ بآباء ذوِي شرفٍ
لقد صدقتَ، ولكنْ بئسَ ما ولَدوا
|
فالمتكبِّر بالنسب إن كان خسيسًا في صفات ذاتِه، فمن أين يجبر حسنَه بكمالِ غيره؟ بل لو كان الذي ينسب إليه حيًّا، كان له أن يقول: الفضلُ لي، ومَن أنت؟ وإنما أنت دودةٌ خُلِقَتْ من بولي، أفترى أن الدودةَ التي خُلِقَتْ من بول إنسان أشرفُ من الدودةِ التي خُلِقَت من بول فرس؟ هيهات، بل هما متساويانِ، والشرفُ للإنسان لا للدودة.
الثاني: أن يعرفَ نسبَه الحقيقي، فيعرف أباه وجدَّه:
فإن أباه القريبَ نُطفة قذِرة، وجدَّه البعيد تراب ذليل، فمَن أصله الترابُ المهين الذي يُداسُ بالأقدام، ثم خُمِّر طينُه حتى صار حمأً مسنونًا، كيف يتكبَّر؟ وأخسُّ الأشياء ما إليه انتسابه؛ إذ يقال: يا أذلَّ من تراب، ويا أنتنَ من الحمأة، ويا أقذرَ من المُضغة، فإن كان كونه من أبيه أقربَ من كونه من التراب، فنقول: افتخِرْ بالقريب دون البعيد؛ فالنُّطفة والمضغة أقربُ إليه من الأب، فليحقِرْ نفسَه بذلك، ثم إن كان ذلك يوجب رفعه لقربه، فالأبُ الأعلى من التراب، فمن أين رفعتُه؟ وإن لم تكن له رفعة، فمن أين جاءت الرِّفعة لولده؟ فإذًا أصلُه من التراب، وفصلُه من النُّطفة، فلا أصلَ له ولا فصل، وهذه غايةُ خسَّة النسب؛ فالأصل يوطأ بالأقدام، والفصل تُغسَل منه الأبدان، فهذا هو النسبُ الحقيقيُّ للإنسان، ومَن عرَفه لم يتكبَّرْ بالنَّسَب"[2].
ومع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتَم النبيين، وأكرمُ البشر على الله، وإمام الأنبياء في الإسراء فإنه - تواضعًا منه عليه السلام - رفَض أن يفضَّل على سائر الأنبياء: ((لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ متى، ولا تفضلوا بين الأنبياء، ولا تخيروني على موسى، ونحن أَوْلى بالشكِّ من إبراهيم، ولو لبثتُ ما لبِث يوسفُ في السِّجن، لأجَبْتُ الداعيَ))[3].
وناداه أحدُ المسلِمين ذات مرة: "يا خيرَ البريَّةِ"، فقال: ((ذاك إبراهيمُ))[4].
وفي هذا المقام علينا أن ندركَ أن بين الفضيلة والرَّذيلةِ خيطًا رفيعًا، يجب أن نفتحَ أعيننا له؛ حتى لا تزِلَّ بنا أقدامُنا - بحُسن نية - من الحق إلى الباطل، ومن الفضيلةِ إلى الرَّذيلة، وبصورة أكثر تحديدًا: علينا أن نعيَ أن بين فضيلةِ التواضع ورذيلةِ الضَّعة خيطًا رفيعًا جِدُّ رفيعٍ؛ فالتواضع نزولٌ من كبارِ النفوس وعظماء العقول إلى مَن هم أقلُّ عِلمًا وفهمًا، وأخفضُ منزلة وعيشًا، والتبسط معهم، ومعالجة أمورهم، ومحاولة الارتفاع بهم مكانًا ووعيًا ونظَرًا.
أما الضَّعةُ، فهي - في إيجاز - ادِّعاءُ التواضع، أو النزول إلى مستوى السَّفِلة باسم التواضع، بينما حقيقةُ الأمر إذلالٌ للنفس، واحتقارٌ لها في سبيل هدفٍ دنيوي رخيص خسيس.
كذلك الغرور أو الكِبْر، إنه تَعَالٍ على خَلْق الله، وزَهْوٌ منفوش، ونظرٌ إلى بني آدم من عَلُ، مع فَقْد فضائل النفس، وصلاحِ القلب، ونقاءِ الضمير.
أما استعلاء الإيمان، فيعني الترفُّع على طينية الأرض، والزهد فيما يتكالَبُ عليه الناس، ويُريقون ماءَ الوجه من أجله، إنه العزة التي ذكرها اللهُ - سبحانه وتعالى - في قوله: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8].
فاعتزازُ المؤمن بربِّه ودِينه ونفسه يمنَحُه طاقة المواجهة: مواجهة الحياة بالعمل الطيب، ومواجهة المحتاجين بكل عونٍ شريف، ومواجهة أعداء الدِّين والحقِّ والوطن بالقوة والصلابة والشموخ، ثم تكون العاقبة في النهاية: الحُسَنى التي ذكَرها الله - سبحانه وتعالى - في قوله:
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 26، 27][5].
واستعلاء الإيمانِ يجعَلُ الحقيقةَ الإيمانية في نظَرِ صاحبها أقوى وأثرى من أقطارِ هذه الأرض بما جمعت، ويبعَثُ فيه الحميَّةَ التي لا تعرِفُ التوقفَ ولا المهانة، فإذا هو الكاسب في كل حال؛ إن انتَصَر فهذا كَسْب عظيم، وإن استُشهِد فذاك كسب أعظم.
لذلك كان المؤمنُ مِن واقع هذه العزة، ومِن مَعِين هذا الاستعلاءِ الإيماني، مُطالَبًا بالتمسُّك بحقه، وعدم التفريط فيه، أو النزول عن بعضه.
لقد جاء مُسَيلِمة الكذَّاب - كما ذكرنا من قبل - إلى المدينةِ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خَلْق كثيرٌ من بني حنيفة، وكان مُسَيلمة - بقوَّة شخصيته، وقدرتِه على الاستهواء - في مركزِ القيادة منهم، وكان بنو حنيفةَ من أقوى قبائلِ العرب وأعتاها وأمنعها.
قال مُسَيلِمة: "لو جعل لي محمدٌ الأمرَ من بعده، تبِعْتُه"، أشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى قطعة جريدة في يده، وقال: ((لو سألتَني هذه القطعة ما أعطيتُكها، ولن أتعدى أمرَ الله فيك، ولئن أدبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّك اللهُ))[6].
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يصانعَ هذا الزعيم القوي، ولكن النبوة في هذه الحال تكونُ قد تخلَّت عن "المنطق الإيماني" في الاستعلاء، الذي يعتمد على المَعِين الربَّاني في تصريفِ الأمور.
وعلى نفسِ الدرب - دربِ الاستعلاء الإيماني - سار الصِّدِّيق أبو بكر، حين أصَرَّ على مقاتلةِ المرتدِّين لو منَعوه عِقال بعيرٍ كانوا يؤدُّونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى نفس الدرب سار عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه في مواجهة المَلِك الغسَّاني: جَبَلَةَ بن الأَيْهم حين أصرَّ أن يلطمَه الفَزاريُّ الفقيرُ كما لطمه[7].
وعلى الدربِ نفسِه سار عثمان بن عفان رضي الله عنه حين رفَض أن يسلم أحد جنوده لعصابة السبئية والمأجورين الذين حاصَروه يوم الدار، وكان دمُه ثمنًا لموقف استعلاء إيماني يُدرِكُه أمثاله من الهُداةِ المَهْديِّين[8].
وهو نفس الدَّرب الذي هوى فيه عليُّ بن أبي طالب شهيدًا بعد أن رفَض التهاون في حقٍّ من حقوقِ الخلافة الرشيدة.
واستعلاء الإيمان يقتضي أن يكونَ المؤمن شجاعًا في الحق، صريحًا في القول، صادقًا في العزيمة، لا يعرفُ الانحناءَ، والالتواء، والخنوع، والاستسلام، والتهاون في عزةِ النَّفْس وشرَفِ الذات.
وبهذا المفهومِ لاستعلاء الإيمان، ومن هذا المُنطَلَق الواضح، أرى من الأمانة أن نقفَ قليلاً أمام حديثٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد يثير شبهةً عند البعض، أو خلطًا في الفهم، وكل ذلك لا أساس له إذا فهِمنا الحديث فهمًا جيدًا، ونص الحديث - وهو يُروى عن عائشة رضي الله عنها -: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ((بئس أخو العشيرةِ، وبئس ابنُ العشيرة))، فلما جلَس تَطَلَّق النبيُّ صلى الله عليه وسلم في وجهِه وانبسط إليه، فلما انطلَق الرجلُ، قالت له عائشة: يا رسولَ الله، حين رأيتَ الرجل قلتَ له: كذا وكذا، ثم تطلَّقْتَ في وجهه وانبسَطْتَ إليه؟! فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشةُ، متى عهِدْتِني فحَّاشًا، إن شرَّ الناس منزلةً يوم القيامة مَن ترَكه الناسُ اتِّقاءَ شرِّه))[9].
فقد يتوهَّم متوهِّم أن موقفَ النبي صلى الله عليه وسلم في صورتيه، يتعارَضُ مع ما عُرِف عنه من جرأةٍ في الحق، ووضوح في أقواله وأفعاله، كموقفِه مع مُسيلِمة الكذَّابِ، وقد يتوهم أن هذه المداراةَ تُعَد لونًا من ألوان التنازل عن استعلاء الإيمان.
ودفعًا لهذا الوهم أو هذه الشبهة؛ علينا أن نعيَ ما يأتي:
(1) ذكَر الإمام النووي أن المعنِيَّ بهذا الحديث هو عُيَينةُ بن حصن[10]، وقد كان من الأعراب الجُفاة المؤلَّفة قلوبُهم، ومن جفائِه أنه دخَل على النبي صلى الله عليه وسلم مِن غير إِذْن، فقال له: ((أين الإذن؟))، فقال: ما استأذنتُ على أحدٍ من مُضَرَ.
وكان ممَّن ارتدَّ وتبِع طُلَيحة الأسدي، وقاتَل معه، فأُخِذ أسيرًا، وحُمِل إلى أبي بكر رضي الله عنه، فكان صِبْيانُ المدينة يقولون: يا عدوَّ الله، أكفرتَ بعد إيمانك؟ فيقول: ما آمنتُ بالله طرفةَ عين.
ودخَل على عمر مرة فقال له: يا بن الخطاب، والله ما تقسِمُ بالعدلِ، ولا تُعطي الجَزْل.
ومع أن عثمانَ بن عفان كان قد تزوَّج ابنته فإنه دخَل عليه ذات يوم، وأغلظ له القول وأساء معه الأدبَ[11].
فتاريخ الرَّجُل يقطع بصِدق وصفِ النبي عليه السلام له.
(2) انبساط النبيِّ صلى الله عليه وسلم له وطلاقتُه وبَشاشتُه في وجهه وإلانة القولِ له، إنما كان تألُّفًا له ولأمثالِه على الإسلام.
(3) عُرِف النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالحياء والأدب، والبَشاشة والتبسُّم في وجوه الآخرين، حتى الذين يُسيئون إليه؛ عن قيس بن جرير قال: "ما حجبَني النبيُّ صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا وتبسَّم في وجهي"[12]، وقصص إحسانِه إلى مَن أساء إليه أكثرُ من أن تحصى.
فاستقبالُه لعُيَينة بهذه الطريقة إنما هو من باب الأدب والحياء، وإكرامه لِمَن قصده، وذلك لا يتعارضُ مع وصفِه للرجل بما وصف؛ يقول النووي: "ولم يمدَحْه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهِه ولا في قفاه، إنما تألَّفه بشيءٍ من الدنيا مع لِين الكلام"[13].
(4) ولا تعارُضَ بين بَشاشة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولِينه في القول مع عُيَينة، وشدته في القول مع مُسَيلمة الكذاب؛ لأن الأول لم ينَلْ بكلامه من أصل العقيدة ونظامِ القرآن والإسلام في حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الأقل؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمُلُ دائمًا أن ينتفعَ الإسلام بهذا الأعرابي الجافي القويِّ الشجاع، وهو الذي وُصِف في التاريخ بأنه من "الزعماء أو القادة الجرارين"؛ أي القادرين على الاقتحام؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم دائمًا يحاول كَسْرَ العنجهية فيه، وتحطيم الساتر الصفيق الذي يقفُ به عند العَتَبة الأولى من عتباتِ الإسلام، فأعطاه من سهم المؤلَّفة قلوبُهم.
وكذلك أبو بكر الصديق، ولو أنه نفَع الإسلام بطاقته وشجاعته، لكان قائدًا عظيمًا في سلسلة القادة العِظام، مثل سعد، وخالد، وعمرو بن العاص، ولكنه وقَف بإسلامه عند أولى العتبات، ومات مسلِمًا على أية حال.
أما مُسَيلمة، فجاء إلى المدينة مساومًا، يطلب مقابلاً ضخمًا لإسلامِه وإسلام قومه: "إن جعَل لي محمدٌ الأمر من بعده، تبِعْتُه"؛ فالمسألة هنا في حاجةٍ إلى حسم قاطع لا يعرِفُ المُلايَنة، إنها قضية مِن القضايا العليا، وكان قولُ النبي صلى الله عليه وسلم هو الفيصلَ الحاسم، رفَع قطعة جريد في يده وقال: ((لو سألتَني هذه القطعة ما أعطيتُكها، ولن أتعدى أمرَ اللهِ فيك، ولئن أدبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللهُ)).
وعاد مُسَيلمة إلى وطنه مَوكوسًا منكوسًا، وادَّعى النبوة، وكتب لمحمدٍ عليه السلام كتابًا يقول فيه: "من مسيلمةَ رسولِ الله إلى محمد رسول الله، أما بعد، فإني قد أُشرِكْتُ معك في الأمر، وإن لنا نصفَ الأرض، ولقريش نصفها، ولكنَّ قريشًا قوم يعتدون".
وكان ردُّ النبي صلى الله عليه وسلم عليه: "من محمدٍ رسول الله إلى مسيلمةَ الكذاب؛ فالسلامُ على من اتَّبع الهدى، أما بعد، فإن الأرضَ لله يورثُها من يشاءُ من عباده، والعاقبة للمتقين".
وانتهى أمرُه على ما هو معروف في التاريخ، قُتِل كافرًا، ومُزِّق قومه في موقعةِ اليمامة، ولو استجاب النبيُّ صلى الله عليه وسلم لطلبِه أو بعض طلبِه، لكان في ذلك تنازلٌ عن "الاستعلاء الإيماني"، وحاشا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يفعلَ ذلك؛ فللهِ العزةُ ولرسوله وللمؤمنين.
نعم، إن المُلايَنة والشِّدة يصدُرانِ من محمد صلى الله عليه وسلم في مواجهةِ رجُلينِ جافيين غيرِ سويين، لا يدلان على تناقضٍ في طبيعة المعالجة، ولكن يدلان على واقعيةٍ وبُعْد نَظَر، إنه تصرُّف من يعطي الشخصية ما يناسبها، ومن يعطي الموقف أنسبَ ما يعطَى من الأقوال والأفعال؛ فالطبيب يلجأ إلى تضميد جرح، وقد يشير بقَطْع العضو الجريح، وهو في كلتا الحالتين الطبيب البارع، والطبيب يشير على مريضِه بالدواء المطلوب وقد يستجيب مريض، ويتعصى على الدواء مريض، فيمضي الأول في طريق الشفاء، وتتكالب على الثاني العِلل والأدواء، والطبيب هو الطبيب براعةً وذكاءً وقدرة وبُعْدَ نظَر.
الرحمة، الأمانة، الحِلْم، الوفاء، الصبر، الزهد والتقشف، التواضُع، العزة، واستعلاء الإيمان: قليل جدًّا من كثير جدًّا من "قائمة القِيَم" التي كانت لهذا الرجلِ العظيم الذي أدَّبه ربُّه فأحسَن تأديبه، هذا الرجل العظيم الذي جمَع كلَّ هذه الخصائص والصِّفات، لو لم يكن نبيًّا بأمرِ الله، لكان نبيًّا بداعية هذه الشمائل الوضيئة العريضة، إنه كان وسيظلُّ "المثل الأعلى" للبشريةِ في كل العصور.
[1] فبغى عليهم: ظلَمهم، أو تكبَّر عليهم بغناه، لَتنوء بالعصبة: لَتُثقلُهم وتميل بهم، لا تفرح: لا تبطَرْ بكثرة المال، القرون: الأُمَم، زينته: مظاهرُ غناه وترَفِه، ويلكم: زجر عن هذا التمني، لا يلقَّاها: لا يوفَّق للعمل للمثوبة، ويكأن الله: نعجب لأن الله، يقدِر: يُضيِّق على مَن يشاء.
[2] إحياء علوم الدين 11/1974.
[3] الشفا 1/265.
[4] السابق، نفس الصفحة.
[5] لا يرهق: لا يلحَقُها أو يغشاها، قَتَر: دخان معه سواد، عاصم: مانِعٌ من عذابه، أُغْشِيَتْ: كُسِيَتْ وأُلْبِسَتْ.
[6] مسلم 5/132 (كتاب الرؤيا).
[7] انظر القصة كلها في الأغاني 15/5465، وفي سيرة عمر بن الخطاب للطنطاويين 360 - 365.
[8] راجع: عثمان بن عفان؛ للدكتور هيكل 115 - 124، والجندي المشار إليه هو كثير بن الصلت الكندي أحدُ الذين دافَعوا عن عثمان وهو محاصَر في بيته، وقد طلب المحاصِرون تسليمَه، فرفض عثمانُ وقال: "لم أكُنْ لأقتُلَ رجلاً نصَرني وأنتم تريدون قتلي"، فاقتَحَموا الدار، وأشعلوا النارَ في بابها وسقيفتِها، وقتَلوا عثمان.
[9] البخاري 8/16 (كتاب الأدب)، ومسلم 5/452 (كتاب البر والصدقة والآداب).
[10] شرح النووي على صحيح مسلم 5/451.
[11] انظر أُسد الغابة 4/331.
[12] البخاري 8/29.
[13] مسلم، السابق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق