عندما ترحل فدوى سليمان
روعة أوجيه
تخال أنّك اعتدت الموت بعد ستة أعوام من يومياته، على الرغم من أنّك تحاول كثيراً ألا تسقط في تلبّد المشاعر، تقاوم، لكنّك تسمع صوتاً في قرارة نفسك يقول لك إنّك مهما حاولت فإنّك تسقط تدريجياً في اعتياد الموت وكأنّه أمر طبيعي من يوميات حياتك، وتمضي، تجد الدموع تتراجع تدريجياً وأنت كنت سخيّ الدمع، تيقن أنّك مهما حاولت أن تبقى إنساناً، فهم يقتلون أشلاءً صغيرة منك مع كلّ بريء يقتلونه.
تباغت نفسك وهي تقنّن المشاعر، فالحياة تمضي، وإذا بكينا على كلّ وجع مظلوم وكلّ حرقة قلب أمّ لن يبقّ في يومنا وقت، وإن كنت ما زلت لا تفهم ما قيمة هذا الوقت الذي نركض وراءه ولا ينتظرنا، تباغت نفسك أحياناً وهي تستخفّ بعدد من ماتوا هنا، هي التي كانت تستنفر لمقتل شخص واحد، تراها لا تكلّف نفسها عناء الشعور إذا لم تكن الحصيلة مهولة، أو إذا لم تكن على الأقل استطاعت أن تتعاطف مع قصّة معيّنة من قصص الضحايا، إذا كلّفت نفسها عناء سماع قصصهم.
في البداية كنت تستمع لقصصهم واحداً واحداً، الأم التي كانت تهمّ لإطعام رضيعها وهي تفكّر بمستقبله، الطفل الذي نجا من قصف هناك قبل أسبوع وأمضى أسبوعه يروي لأصدقائه كيف كتب له الله عمراً جديداً، كنت تبكي عليهم فرداً فرداً، على أحلامهم، على حقّهم في الحياة، على براءتهم، ثم زادوا وزادوا.
تباغت نفسك وهي تقنّن المشاعر، فالحياة تمضي، وإذا بكينا على كلّ وجع مظلوم وكلّ حرقة قلب أمّ لن يبقّ في يومنا وقت، وإن كنت ما زلت لا تفهم ما قيمة هذا الوقت الذي نركض وراءه ولا ينتظرنا، تباغت نفسك أحياناً وهي تستخفّ بعدد من ماتوا هنا، هي التي كانت تستنفر لمقتل شخص واحد، تراها لا تكلّف نفسها عناء الشعور إذا لم تكن الحصيلة مهولة، أو إذا لم تكن على الأقل استطاعت أن تتعاطف مع قصّة معيّنة من قصص الضحايا، إذا كلّفت نفسها عناء سماع قصصهم.
في البداية كنت تستمع لقصصهم واحداً واحداً، الأم التي كانت تهمّ لإطعام رضيعها وهي تفكّر بمستقبله، الطفل الذي نجا من قصف هناك قبل أسبوع وأمضى أسبوعه يروي لأصدقائه كيف كتب له الله عمراً جديداً، كنت تبكي عليهم فرداً فرداً، على أحلامهم، على حقّهم في الحياة، على براءتهم، ثم زادوا وزادوا.
أردت أن تقاوم جمعهم بحصيلة واحدة تختزل قصصهم الفردية بقصة ثورة يتيمة، لكنّك لم تستطع، انزلقت تدريجياً في دوامة الموت، أو ربما هي ابتلعتك منذ اليوم الأول، سوريا ابتلعتنا جميعاً، بإنسانيتنا، وعروبتنا، وقوميتنا، بأحلامنا وقضايانا، بعنفوان شبابنا وإيماننا بغدٍ أفضل. البعض ما زال لم يستسلم، البعض يريد فقط الخلاص، البعض يحاول لملمة جراحه على ضفاف أخرى، البعض بتر من عروبته وعاد إلى قوميته الصغرى محاولاً أن ينأى بنفسه قدر الإمكان عن هذا الإعصار، أن يحتمي بوطنه الذي يعتقده بعيداً، لكن شئنا أم أبينا، نحن عرب أولاً، وكلّ وجع يصيبنا جميعاً، مهما دفنّا مشاعرنا في قومياتنا الصغيرة وانتماءاتنا الضيقة.
سورياً كنت، أم عربياً، أم إنساناً، تخال أنّك اعتدت الموت والدمار، فخيبات الأمل والانكسار أقوى من أن تلملم نفسك في كلّ مرّة وترمّم أشلاءك وتنهض، في وسط الإعصار، الغريزة تحثّنا على البقاء في الحضيض، كي لا نتبعثر أكثر.
تخال أنّك اعتدت الموت، ثم تسمع خبر وفاة شخصٍ مثل فدوى سليمان، وتنهمر الدموع، تباغتك نفسك أنّها لم تمارس التقنين عليك هنا، على الرغم من أنّ فدوى توفّيت بعد صراع طويل مع المرض، كان يُفترض أنّ الوقت قد عوّدك على فكرة موتها، خصوصاً أنت الذي لم تكن تعرفها شخصياً وإن التقيت بها مرّات عابرة في باريس، هذا المرض الذي أجبرها على ترك سوريا بعد أن تركت كلّ شيء لتقف وتصرخ مطالبةً بالحقّ.. الحقّ في العيش بدون ذلّ.
ربما لهذه الصرخة تنهمر الدموع على رحيلها، فمن بقي ممن لم يُرد أكثر من بعض الحقوق؟ من بقي ممّن لم يُرد الدماء، ولم يُرد الموت، من بقي ممّن لم يُرد إلا الحياة بكل ما فيها من فرح وأحلام؟ وماذا بقي مّمن بقوا؟ سمعت مرّة: مشكلة الموت ليست لمن ذهبوا، بل لمن بقوا، نحن بقينا، ونكاد لا نعرف ماذا بقي منّا، حتى أحلامنا باتت بصيغة الماضي، كنّا نحلم بغدٍ أفضل، كنّا نحلم بالحرّية، كنّا نحلم بالكرامة، هل ما زلنا نحلم؟
نتمسّك ببعض الانتصارات الصغيرة، زهرة تنبت وسط الركام، علم رفرف على مبنى مهجور، وما إن نرفع رأسنا ندرك أن انكساراتنا أكبر، ندرك أن الدمار الذي حولك يتسلّل إلى داخلك، بين ما مات منك مع من ماتوا وبين ما انكسر مع الحطام، لا تملك حتّى القوّة لاكتشاف ما بقي منك، عليك تقنين المواجهات، كما تقننّ، المشاعر.
كلّ ما لديك الآن بضع كلمات، ودموعٍ تنهمر على فدوى سليمان، على جسد صارع المرض، وروح صارعت الظلم، كم هو معبّر هذا الموت، في مكانٍ آخر بعيدٍ عن وطن أرادت أن تسترجعه، خسرت جسدها.. فهل يبقى لروحها الوطن؟
نتمسّك ببعض الانتصارات الصغيرة، زهرة تنبت وسط الركام، علم رفرف على مبنى مهجور، وما إن نرفع رأسنا ندرك أن انكساراتنا أكبر، ندرك أن الدمار الذي حولك يتسلّل إلى داخلك. |
تخال أنّك اعتدت الموت، ثم تسمع خبر وفاة شخصٍ مثل فدوى سليمان، وتنهمر الدموع، تباغتك نفسك أنّها لم تمارس التقنين عليك هنا، على الرغم من أنّ فدوى توفّيت بعد صراع طويل مع المرض، كان يُفترض أنّ الوقت قد عوّدك على فكرة موتها، خصوصاً أنت الذي لم تكن تعرفها شخصياً وإن التقيت بها مرّات عابرة في باريس، هذا المرض الذي أجبرها على ترك سوريا بعد أن تركت كلّ شيء لتقف وتصرخ مطالبةً بالحقّ.. الحقّ في العيش بدون ذلّ.
ربما لهذه الصرخة تنهمر الدموع على رحيلها، فمن بقي ممن لم يُرد أكثر من بعض الحقوق؟ من بقي ممّن لم يُرد الدماء، ولم يُرد الموت، من بقي ممّن لم يُرد إلا الحياة بكل ما فيها من فرح وأحلام؟ وماذا بقي مّمن بقوا؟ سمعت مرّة: مشكلة الموت ليست لمن ذهبوا، بل لمن بقوا، نحن بقينا، ونكاد لا نعرف ماذا بقي منّا، حتى أحلامنا باتت بصيغة الماضي، كنّا نحلم بغدٍ أفضل، كنّا نحلم بالحرّية، كنّا نحلم بالكرامة، هل ما زلنا نحلم؟
نتمسّك ببعض الانتصارات الصغيرة، زهرة تنبت وسط الركام، علم رفرف على مبنى مهجور، وما إن نرفع رأسنا ندرك أن انكساراتنا أكبر، ندرك أن الدمار الذي حولك يتسلّل إلى داخلك، بين ما مات منك مع من ماتوا وبين ما انكسر مع الحطام، لا تملك حتّى القوّة لاكتشاف ما بقي منك، عليك تقنين المواجهات، كما تقننّ، المشاعر.
كلّ ما لديك الآن بضع كلمات، ودموعٍ تنهمر على فدوى سليمان، على جسد صارع المرض، وروح صارعت الظلم، كم هو معبّر هذا الموت، في مكانٍ آخر بعيدٍ عن وطن أرادت أن تسترجعه، خسرت جسدها.. فهل يبقى لروحها الوطن؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق