في ظل غياب الرقابة الشعبية واختفاء مؤسسات الدولة وتغييب المشاركة المجتمعية، يواجه المصريون مشروعا جديدا لاستنزاف الدولة المصرية يفوق في خسائره ما ترتب على حفر تفريعة قناة السويس، ولا يتوقف الأمر عند تبديد ما يقارب التريليون جنيه في مشروع كارثي من الناحية الإستراتيجية، وإنما سيترتب عليه تفكيك الحكومة المصرية وتصفية موظفيها وبيع ممتلكات الدولة بوسط القاهرة.
بلا أي دراسات، وبلا أي نقاش، قرر عبد الفتاح السيسي نقل الحكومة المصرية إلى العاصمة الإدارية الجديدة قبل نهاية عام 2018، وصدرت التعليمات للوزارات للاستعداد للانتقال بدون تقديم أي مبررات لمغادرة القاهرة بهذه السرعة، في هذا الوقت القياسي، إلى صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، تحتاج لسنوات حتى تكون صالحة للحياة.
يتحدثون عن نقل الحكومة ووزاراتها بدون أي إشارة لمصير الموظفين والعمال، وينشرون التصميمات الهندسية والصور ثلاثية الأبعاد للمباني في العاصمة الجديدة، ولم يبنوا عمارة سكنية واحدة لمن يعملون في أي وزارة، أي أنهم يريدون نقل الحكومة بدون البشر العاملين بها!
موظفو الوزارات والخيارات المستحيلة
قرار نقل الوزارات بهذه السرعة وبهذه الطريقة إلى الصحراء، حيث لا توجد مقومات للحياة على المدى القريب، ليس له تفسير إلا التخلص من موظفي الدولة بحيلة تجعل قرار تصفية العمالة طوعية، وإجبار الموظفين والعمال على الاستقالة والخروج المبكر على المعاش؛ فكل الطرق أمامهم للاستمرار في وظائفهم مسدودة.
نقل الوزارات إلى العاصمة الإدارية يضع مئات الآلاف من الموظفين في الحكومة أمام 3 خيارات تؤدي كلها إلى نتيجة واحدة وهي ترك العمل، على النحو التالي:
أولا: شراء شقة سكنية في العاصمة الإدارية للإقامة بجوار الوزارة، وهذا لن يقدر عليه إلا الموظفون الفاسدون الذين لهم مصادر دخل تمكنهم من الشراء؛ أو بعض موظفي الإدارة العليا من أهل الحظوة الذين يتقاضون مرتبات عالية خارج النظم الإدارية الرسمية المتعارف عليها، فأقل شقة في العاصمة الإدارية لا يقل سعرها عن مليون جنيه، ولا يقل سعر المتر عن 12 ألف جنيه، ومباني المرحلة الأولى التي بلغت 17 ألف شقة مطروحة للبيع بالدولار بما يساوي 20 مليار جنيه، فمن هو الموظف الذي يستطيع أن يشتري شقة بهذا السعر؟
ثانيا: الوصول إلى العاصمة الإدارية بالمواصلات، وهنا نكتشف الخدعة الكبيرة، فالتصميمات تؤكد عزل العاصمة الجديدة عن القاهرة، ولم تتضمن الخطط تنفيذ أي شبكة مواصلات لنقل الموظفين، بل وسيلة الربط الوحيدة المعلنة لربط العاصمة الجديدة بخارجها هي قطار مكهرب يربط العاصمة الجديدة بمدينة السلام.
ثالثا: لم يتبق أمام الموظفين الذين يتمسكون بالوظيفة الحكومية غير الوصول إلى العاصمة الجديدة بسياراتهم الخاصة أو بالتعاقد مع سائقي الميكروباص أو الأتوبيسات كما يتم مع تلاميذ المدارس، وهذا البديل صعب جدا لطول المسافة ولارتفاع أسعار الوقود التي تجعل عملية التحمل البدني والمادي بمثابة انتحار، لا يكافئ المرتب الحكومي الذي لم يعد يكفي الطعام للأسرة.
ونفس الأمر بالنسبة للمواطنين العاديين الذين يريدون تخليص مصالحهم في الوزارات، فهم خارج الحسابات، بل وتشير الإجراءات الأمنية في التصورات المعلنة إلى أن العاصمة ستكون خاصة بالمقيمين فيها من النخبة المنتقاة فقط، ومغلقة في وجه باقي الشعب، وهذا يجعلنا أمام أسئلة متعلقة بالدور المنتظر للوزارات في ظل هذا الوضع يذكرنا بالتمييز الطبقي والعنصري.
تصفية الدولاب الحكومي
لو تم التنفيذ حسب التصور المعلن سنكون أمام أكبر عملية تصفية لدولاب العمل بالدولة، وتصفية العاملين بالجهاز الحكومي في مذبحة تبدو فيها الحكومة وكأنها لم تجبر أحدا على الاستقالة وإنهاء الخدمة مبكرا، ويظهر الموظفون وكأنهم هم الذين اختاروا ترك وظائفهم!
هذه التصفية ستكون كارثية على المجتمع، تزيد من حجم البطالة الذي يزداد يوما بعد يوم، ويترتب عليها تشريد خبرات لا تقدر بمال، وتدمير النسيج المجتمعي، ووضع المزيد من المصريين في دائرة الفقر.
وما تزال تصفية العمالة في شركات القطاع العام ماثلة في الأذهان، فقد تمت غواية العاملين في المصانع التي بيعت بالتعويضات والمعاش المبكر، فخسرت مصر قوتها العاملة المدربة وفقدت خبرات نادرة كانت عماد الصناعة المصرية، فتراجع التصنيع وانهار الاقتصاد، واكتشفنا أن المصانع قد بيعت لمجموعات متنوعة من اللصوص فككوها وباعوا الآلات وقسموا أراضيها وباعوها في سوق العقارات!
صندوق النقد والعداء للموظفين
ما يحدث من تجاهل للعنصر البشري في التصور المطروح للعاصمة الإدارية يشير إلى أن توصية الصندوق بتصفية العمالة تتم بالتحايل لامتصاص الغضب الشعبي، وهذا السلوك الذي يفتقد الحس الإنساني ليس له صلة بالمصلحة العليا للوطن، وهو توجه مناقض للعقل والمنطق؛ فاستبعاد المواطنين المصريين من مشروع يقال إنه عاصمة لمصر واستجلاب الأثرياء الأجانب ليقيموا فيها لا نجد له تفسيرا في كل القواميس العالمية.
من الواضح أن توصيات صندوق النقد تنفذ بأسرع مما كنا نتخيل، فالتخلص من الموظفين والعاملين في الدولة أحد أهم البنود في الروشتة التي يطلبها الصندوق، وهي من التوصيات التي أدت إلى تخريب دول مثل يوغسلافيا والصومال ودول أمريكا اللاتينية، ولا يوجد نموذج واحد لدولة تخلصت من موظفيها يؤكد نجاح خبراء الصندوق في تحقيق ما يطلقون عليه "الإصلاح الاقتصادي".
سكان العاصمة الجديدة
نحن أمام تصور غريب لعاصمة دولة ليست لأبنائها، ولا توجد شفافية في إخبار المصريين بحقيقة الهدف منها، فالتصميم كان لمدينة عقارية يقف خلفها الإماراتيون لوقف التمدد السكاني شرقا (في إطار التمهيد لإسرائيل الكبرى) برفع سعر الأرض في المنطقة الشرقية حتى خليج السويس، لمستويات فلكية، تجعل من المستحيل على المصريين أن يشتروا ويتملكوا في هذا الاتجاه.
الذي حدث فجأة، هو تغير مسمى المشروع من الاسم الذي أطلق عليه في البداية "وديان" إلى "العاصمة الإدارية" دون تغيير الفكرة والمضمون والهدف، فهو مشروع للأثرياء فقط، من الأجانب بغض النظر عن جنسياتهم، وهو بمعنى أدق أشبه بمستوطنة في قلب الصحراء، مغلقة، محاطة بأسوار خرسانية، تسكنها طبقة بمواصفات خاصة لا تمثل الشعب المصري!
***
مشروع العاصمة الإدارية يحتاج إلى نقاش مجتمعي في مناخ حر، وقرار بمثل هذه الخطورة والأهمية ليس ملكا لشخص واحد، فهذا الموضوع سيترتب عليه مستقبل الدولة المصرية، والاستعجال في نقل أركان الدولة إلى منطقة معزولة بدون سكان في صحراء العين السخنة المكشوفة أمام الكيان الصهيوني قرار يناقض أي تفكير استراتيجي، وهذا يضعنا أمام واقع جديد يتلخص في طرد الحكومة إلى الصحراء واحتلال الأجانب لقلب القاهرة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق