أمريكا: رئيس محاصر وإدارة في وضع لا يسرّ
د.بشير موسي نافع
أقرت غرفتا الكونغرس الأمريكي عقوبات جديدة على روسيا وإيران وكوريا الشمالية، في نهاية تموز/ يوليو الماضي، بأغلبية كبيرة، أغلبية كفيلة بالحيلولة بين الرئيس وصلاحيات الاعتراض على قرارات الكونغرس. وفي 2 آب/ أغسطس، صدّق الرئيس دونالد ترامب على العقوبات، وإن على مضض.
في التقاليد الرئاسية الأمريكية، يحاط التوقيع على القوانين بمشهد احتفالي، يحاط فيه الرئيس بكبار المسؤولين والمهتمين، وتسجله وسائل الإعلام. هذه المرة، لم يكن هناك من احتفال، ولا شهود، ولا وسائل إعلام. بكلمة أخرى، وجد الرئيس نفسه مجبرا على التوقيع، فوقع. وكعادته، لم يستطع ترامب، في عدد من التصريحات اللاحقة، إخفاء امتعاضه وشعوره بالحصار والإهانة.
لم يكن لدى الرئيس الأمريكي من اعتراض على العقوبات التي فرضها الكونغرس على إيران وكوريا الشمالية. فالحقيقة، أن إدارة ترامب اتخذت من البداية موقفا معاديا لإيران، ومشككا بالاتفاق الذي توصلت إليه إدارة أوباما حول المشروع النووي الإيراني. كما أن ترامب يجد نفسه في مواجهة أزمة كورية، لا يعرف على وجه اليقين كيف يمكنه إدارتها بنجاح. بمعنى، أن العقوبات على إيران وكوريا الشمالية صبت في المجرى العام للإدارة؛ وربما حتى وفر إقرارها فرصة لأن يقول ترامب أنه يقوم بالفعل بعمل ما في هذا المجال.
مشكلة ترامب هي في العقوبات التي فرضت على روسيا، ليس فقط لأنها تخالف سياسة الإدارة المعلنة وتعهداتها بالسعي إلى تحسين العلاقات بين واشنطن وموسكو، وتعزيز التعاون بين الدولتين في الساحة الدولية، ولكن أيضا لأن المسوغ الذي استخدمه الكونغرس لفرض العقوبات يتصل بالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
ولأن ترامب يواجه اتهامات بأنه أفاد من التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية، وأن هناك أكثر من لجنة أمريكية (محقق خاص في وزارة العدل، ولجنتان في غرفتي الكونغرس)، تحقق في ما إن كانت حملة ترامب الانتخابية قامت باتصالات غير قانونية مع جهات روسية، تتعلق بالعملية الانتخابية، يبدو توقيع الرئيس على العقوبات شأنا مهينا بلا شك. فكيف يصر الرئيس على تبرئة الروس من التدخل في العملية الانتخابية، وعلى أن فوزه (الحرج) في الانتخابات كان فوزا مستحقا، ويصدق في الآن نفسه على عقوبات فرضت على خلفية من التدخل الروسي في العملية الانتخابية التي جاءت به رئيسا؟
بيد أن هناك ما هو أهم من ذلك؛ إذ أن هذه واحدة من الحالات النادرة منذ الحرب العالمية الثانية، وولادة ما يعرف بدولة الأمن القومي، التي يقرر فيها الكونغرس مسألة هامة في حقل السياسة الخارجية، بمعزل عن الرئيس وإدارته. ففي التقاليد الأمريكية الدستورية، يتمتع الرئيس بما يشبه الصلاحيات الحصرية لإدارة السياسة الخارجية، بحيث يمكنه اتخاذ قرارات كبرى بدون العودة إلى الكونغرس، بما في ذلك تعهد عملية عسكرية كبرى، طالما أنه لم يلجأ إلى الإعلان القانوني للحرب. وربما كانت لجنة بيكر ـ هاملتون، التي شكلت بقرار من الكونغرس لبحث حروب إدارة بوش الشرق أوسطية، المرة الأخيرة التي حاول فيها الكونغرس تدخلا فعليا في السياسة الخارجية.
لكن حتى لجنة بيكر ـ هاملتون لم تذهب أبعد من وضع توصيات، وقد تجنب الكونغرس صياغة تلك التوصيات بقوانين تفرض على الإدارة. وكان أخذ بوش الابن بتوصيات اللجنة نابعا من السلطة المعنوية لرئيسيها والتوافق الجمهوري ـ الديمقراطي الكبير عليها؛ إضافة إلى أن إدارة بوش كانت تشعر آنذاك بالمأزق الكبير الذي وصلته في العراق وضرورة البحث عن مخرج.
هذه المرة، أقرت العقوبات على روسيا، التي يعرف أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب أن الرئيس لا يرغب فيها، بقانون، وأقرت بأغلبية هائلة في المجلسين، وكأن الكونغرس يقول أنه يتدخل في حقل السياسة الخارجية عن سبق تصور وتصميم، وأن لا مجال أمام الرئيس سوى التصديق على قانون العقوبات. وهذا ما لم يستطع ترامب إخفاءه، عندما قال بحسرة لا تخفى أن الكونغرس أعطى لنفسه حق التدخل في حقل هو في الأصل من صلاحيات الرئيس.
تتفق وكالات ودوائر الدولة الأمريكية على أن جهة ما، أو جهات، في روسيا تدخلت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بصورة أو أخرى. ولكن أحدا لا يمكنه القول بعد لماذا قرر الروس التدخل. هل وقع التدخل لإنجاح ترامب وإسقاط السيدة كلينتون، نظرا لمخاوف موسكو من السياسات التي يمكن لكلينتون اتباعها، سيما بعد أن ساءت علاقاتها بالرئاسة الروسية خلال الفترة الأخيرة من توليها وزارة الخارجية في إدارة أوباما الأولى؟ أو أن الروس تدخلوا لمجرد خلق مناخ من عدم اليقين وفقدان الثقة في الديمقراطية الأمريكية؟ هل كانت قيادات حملة ترامب الانتخابية على دراية بجهود التدخل الروسية، أو شجعوا عليها، أو لا؟ وهل أثر هذا التدخل بالفعل على نتائج الانتخابات أو لم يؤثر؟
ليست ثمة إجابات يقينية على هذه الأسئلة، وسيكون على لجان التحقيق في مجلسي الكونغرس، وعلى المحقق الخاص الذي أوكلت له القضية برمتها في وزارة العدل، تقديم الإجابات. ما هو يقيني، أن لا فكاك لترامب من الشبهات التي تثيرها هذه القضية، وأنها ستستمر في ملاحقته لفترة طويلة بالتأكيد.
أطاحت قضية التدخلات الروسية في الانتخابات بأول سكرتير لمجلس الأمن القومي في إدارة ترامب، وتدفع دوائر اليمين القومي المحيطة بالرئيس لإقالة الجنرال ماكماستر، الذي تولى مجلس الأمن القومي بعد استقالة فالين. وبعد أن كان الرئيس، في مطلع ولايته، كال المديح لجيمس كومي، مدير الإف بي أي، فاجأ ترامب الرأي العام بإقالة كومي. ولكن هاجس قضية التدخل الروسي في الانتخابات ليس الوحيد الذي يثقل كاهل رئاسة ترامب. في الأسابيع الأولى لتوليه مقاليد البيت الأبيض، كان الاعتقاد السائد أن الرئيس يعاني من عوارض عدم الخبرة، كونه لم يسبق أن تولى منصبا تشريعيا أو تنفيذيا، ولم تتح له قبل فوزه في الانتخابات التعرف على آلية عمل الدولة الأمريكية.
ولكن، وبعد مرور أكثر من نصف العام على ولايته، تبدو مشكلة الرئيس أكبر بكثير من عدم الخبرة. يستخدم ترامب لغة سوقية لا تليق بمنصب الرئاسة؛ وبالرغم من أن السياسيين جميعهم يكذبون، فإن الرئيس يكذب بصورة مرضية، وبطريقة ساذجة ومكشوفة في بعض الأحيان.
وإلى جانب فقدان القدرة على التحكم بمظاهر الهوس غير المعهود بالذات، ثمة شواهد على أن الرئيس يتخذ قرارته بدون تأمل أو تشاور أو حسابات كافية. في أسبوع واحد فقط، أقال الرئيس كبير موظفي البيت الأبيض، الذي يقوم بمقام رئيس الحكومة في الدول الأخرى؛ كما أقال مدير الاتصالات العامة، ثم أقال خليفته.
وإلى جانب تقدير الرئيس غير الصحيح للدور الذي ظن أن الصين ستلعبه في الأزمة الكورية الشمالية، والخلاف الواضح بين الرئيس وكبار مسؤولي إدارته حول اللغة التي ينبغي استخدامها في التعامل مع الأزمة، يبدو أن الرئيس عقد اتفاقا مع السعوديين والإماراتيين حول قطر دون معرفة وزيري الدفاع والخارجية أو مدير مجلس الأمن القومي. هذا ليس رئيسا في وضع جيد، وبالرغم من صعوبة التنبؤ بمصيره، فالمؤكد أن وضعه الداخلي يزداد ضعفا. وسيكون من السذاجة أن يعوّل بعض العرب، وبعض الفلسطينيين، على هكذا رئيس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق