تشييع الذهب وتسنين الحديد
أحمد عمر
ما يجري بين الدين والسياسة في بلادنا ليس تهجيناً، أو تلبيس خواتم، أو تعايش، أو حسن جوار، كما كان الأمر منذ عهد الحليم معاوية بن أبي سفيان، الذي يوصف في أدبيات المسلمين بالكسروي، حتى الكريم شكري القوتلي، وإنما هو تدجين للدين ونخاسة.
أركان الإسلام خمسة عند السنّة، وعند الشيعة ستة، السادس هو ركن الإمامة، وقد تقارب الزمان، وانفرط المكان، واختلط الظلام بالنور، والحق بالباطل، وصارت نجوم الدب الأصغر والحمار الأكبر ودرب التبانة، ترى في سماء التلفزيون لا في سماء الله، وتبادلت الطوائف العقائد والأثقال، فأخذت السنّة طبائع الشيعة وبعض عقائدهم السياسية، ومظلمتهم أيضا.
إيران تعمل منذ نشوئها كدولةً إسلامية، تسبق صفتها الدينية اسمها، على تصدير الثورة، ونحن نستوردها الآن، بضاعةً مزجاة، مع أن كل دعاة النهضة العربية كانوا يدعون إلى استيراد حضارة الغرب المسيحية. الحاصل أنهم استوردوا من الغرب القومية غير الحميدة، ووسائل الترفيه، من سيارات تقصر المسافات، وآلات تحوّل الصيف إلى شتاء، واستوردوا أيضاً وسائل ترفيه أخرى، مثل الكرسي الألماني، والشمعدان البريطاني - بحسب شهادة لرجل المخابرات السابق سليم حذيفة- يوضع تحت السجين العاري ليطبخ على مهل، وهراوات الصعق الكهربائي، وصندوق الانتخاب البلاستيكي، الذي رأينا نتائجه الثابتة ، فهو أقوى من الستانلس ستيل!
يسمّي الشيعة في طهران خطبة الجمعة "بالعبادية السياسية"، يغذّون بها سلطتهم قوة ًومنعة، أما خطبة الجمعة في عواصم السنّة فهي حبة منوم أسبوعية، ودعاية للرئيس في مسك الختام ، وكان كتب عنها كاتب ليبي حداثي، كتاباً طريفاً ملتبس المنهج، هو الصادق النيهوم، يذكّر بأهميتها وأولويتها في بناء المجتمع والجماعة، لكن القوم لم يستبينوا الرشد حتى في ضحى الغد.
عمل ملوك السنة على تعقيم الدين من السياسة، ومن الرسالة التعاونية الاجتماعية، فدمروا المؤسسة الوقفية، التي كانت أغنى من كل الوزارات، وكان من نتيجة ذلك أن حبلت إيران الشيعية بقنبلة نووية، ومصانع أسلحة، وبرلمان معقول، واحتلت أربع أو خمس عواصم إسلامية سنيّة، من غير خيل ولا ركاب.
أما عواصم السنّة،فلا تزال تستخدم سلاحين تقليدين تروّض بهما رجالها، هما العصا والراقصة، وكلاهما يكسران الظهر، وقد بالغ الرئيس المصري وأتى شيئاً إدّا، فحاول بالفنانات إغراء الأمريكان والأوربيين!
الإسلام، هو الذي أذاق الاستعمار نكال الهزيمة ودحره عن البلاد، منذ الغزو الصليبي والمغولي، وليس حزب البعث، ولا الحزب الوطني، ولا الناصري، الذي نقرّ له بتأميم قناة السويس وتأميم الشعب أيضاً، فلم يستفد الشعب من التأميم شيئاً مذكوراً، الدين هو البطل ليس في البلاد الإسلامية وحسب، وإنما في أمريكا اللاتينية أيضاً، وعُرف في الأدبيات السياسية بلاهوت التحرير.
الإسلام هو الذي دحر الغزاة الصليبين والتتار، وليس الرفاق، ولا الاتحاد النسائي، الرفاق في مصر وسورية كان نضالهم في الليالي الحمراء، وفي السجون تعذيباً للخصوم.
عزل الغرب الدين المسيحي في دولة ذهبية مقدرة ومحترمة، وكان العزل صعباً سياسياً، وسهلاً عقائدياً بعد رحلة طويلة من الآلام عمرها ألفي سنة، وهاهم ملوكنا المناكيد يحاولون عزل الإسلام واستيراد بضاعة يدعون أنها العلمانية، وكان المفكر المستقل محمد عابد الجابري يسخر منها، وابن خلدون من قبله له ذات الرأي، فالعرب برأيه لا يتحصل لهم ملك إلا بالدين، وهاهم ملوك يخصون أنفسهم، وقد جبّوا مع المذاكير، المثانة والكبد، ولم يتركوا سوى الذنَب للهش على الذباب، وكانت الجماهير العربية لها قدرة على الهتاف، وقد فقدته أيضاً.
الملك العربي، يدرك أن الشيخ أو الداعية هو خصمه السياسي، ويعرف أنه يصعب عزل الإسلام عن السياسة، لذلك هو يصدّر المتصوفة في المشهد. ويبقى الداعية بين مصيرين اثنين: سجين أو شهيد، أو مهرج متبرج.
يقرّ الجميع بضرورة إصلاح ديني، ولو اتفقنا على دين أبي جهل ومروءته لصدرنا وتصدرنا وزكينا.
البابا في الغرب، والكنيسة وما يسرّب لها من أخبار فجورها بالأولاد وفضائحها، ما تزال معززة مكرمة.
يعمل الغرب جاهداً على ستر عيوب قساوستها، وللبابا دولة. أخذ ملوك أوربا، أمس، صورة تذكارية يتوسطها البابا، بينما يعمل الملك العربي الفرانكشتاين، على تخسيس صورة الشيخ الداعية وتبخيسها، ولعب بالدين لعباً، وجعل الشيخ مرذولاً يشبه لبيّسة الراقصة، وصنع في الأقبية وحشاً اسمه داعش، وحول ذهب الدين إلى حديد، وحديد الملك إلى ذهب. الملك حل محل الإله وإن مواربة، فالله يشرك به، والملك لا يشرك به ، الركن الأول في الإسلام مهدور.
وكان من نتيجة هذا الاستعباد أن تحول السنّة إلى شيعة، من غير فضيلة الركن السادس، فهم يعيشون كربلاء في غير بلد، كربلاء في الشام، وثانية في مصر، وثالثة في اليمن، ورابعة في ليبيا، وهم في الشام باتوا يقلدون بعض الشيعة باللعن، فهم يلعنون الرئيس السابق.
الشيعة تأخذ الخمس للإمام، وملوك السنة يأخذون أربعة الأخماس من أجل حضن الوطن، أو من أجل تحيا مصر.. وهي تموت.
الشيعة يقدسون أضرحة أئمتهم المعصومين، والسنّة يقدسون جزم العسكر الجائعين!
الكرد أيضاً تعرضوا لتحولات كبيرة، تشيّعوا بدرجة أو أخرى، فصارت السياسة ركناً أولاً في دينهم ويقينهم، بعد تخليق الوحش العجيب داعش. وهم فريقان كبيران حالياً، ومتخاصمان.
وكان الكردي عند موته يحفر له قبر عادي، فالكرد الكرمانج يكرهون تجصيص القبور، لكنهم الآن يميلون إلى تقديرها.
وكانوا سابقاً يكتبون على القبر اسم المرحوم، ويصدرونها بالفاتحة، وهم الأن يرسمون عليها الأعلام الملونة، ولا أعرف إن كانت الأعلام تنفع في العالم الآخر، فهي رسائل إلى المناصرين في الحياة الدنيا.
ولدي على صفحتي معارف وأصدقاء، مات منهم من مات، ويؤكد أهلهم في العزاء على موتهم على نهج القائد الفلاني لا على نهج القائد العلاني.
وبالأمس القريب رأيت صورة غريبة وطريفة وعجيبة، لأسرة كردية من الملالي، وقد استشهد ابنهم، الأب، وهو إمام مسجد، كان يُدعى قبل سنوات ليؤبن الموتى، وقد تراجع إلى الخلف، وتصدر مشهد التأبين قائد حزب سياسي، ليخاطب روح الميت ويثني عليه، وعلى وطنيته!
في الدين ثوابت أكثر من السياسة، والسياسة متغيراتها أكثر من متغيرات الدين، والحاصل أنّ الدين صار سياسة يفتى فيه بالفجور، وإبادة الحرث والنسل، وإباحة ما لا يرضاه عاقل في الغرب قبل الشرق.
لقد أمست السياسة، شريعة الرئيس، ديناً منزّلاً من سماء القصر الجمهوري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق