"حافظ وشوقي" هما الشاعران.. فمن ثالثهما؟
د. محمد الجوادي
علي أرجح الأقوال ولد أمير الشعراء أحمد شوقي 1868 وتوفي 1932 أما حافظ إبراهيم فقد ولد في 1870 وتوفي في 1932 أيضا ولكن قبل شوقي كما يعرف كل الناس من أشهر أبيات شوقي في الرثاء حين قال في حافظ:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي .. يا منصف الموتى من الأحياء .. لكن سبقت...
نعرف أيضا أن ناقدي العصر وهما العقاد وطه حسين كانا لا يحسان بالرضا من صدارة شوقي وحافظ، ومع أن العقاد شاعر قيم الشعراء جميعا فإن طه حسين لم يكن يزاحم العقاد في هذا الميدان، لكنه في نوبة من نوبات الحماس المعهودة فيه وسدا للفراغ في نظرته لحافظ وشوقي قال إن خليل مطران هو شاعر العصر! لكن الأمر وقف عند هذا الحد من حماس لم يتكرر ولم يتأكد ولم يتبلور فيما هو أكثر من ذلك. ومع هذا فإن عبارة طه حسين الحماسية عبارة جميلة تستحق أن تروى حيث قال: "إن مطران زعيم الشعر العربي المعاصر، وأستاذ الشعراء العرب المعاصرين، يسمّيهم جميعاً بأسمائهم غير متحفّظ ولا متردد".
كان مطران مقاربا في مولده لشوقي وحافظ، ولد بعد شوقي بأربع سنوات وبعد حافظ بسنتين، وقد توفي شوقي وحافظ مبكرين ـ في عام 1932 ومدّ الله في عمر مطران حتى عام 1949. نعرف أن مطران لم يولد في مصر وإنما ولد في بعلبك، لكنه أحب مصر التي اختارها لنفسه سكناً ووطناً حيث قال:
يا مِصْرُ أَنْتِ الأَهْلُ والسَّكَنُ وَحِمَي عَلَي الأرْوَاحِ مُوْتَمَنُ
عاش أحمد محرم حياته للأدب، ولم ينل منه إلا ما كان يكفيه بالكاد، وقد عاش هذه الحياة بأخلاق نبيلة: كان كريما يبذل المال والفضل، كما كان صفوحا متسامحا لا يميل إلى الجدل |
من هو الشاعر الثالث في ذلك الجيل الذي أراد طه حسين بحكم توجهاته أن يقفز عليه؟ لكن الشعراء والنقاد كان لهم رأي آخر. إنه أحمد محرم الذي ولد 1877 وتوفي هو الثالث قبل مطران، فقد توفي 1945. من الطريف أنه عندما تأسست جماعة «أبوللو» الشعرية على يد أحمد زكي أبو شادي أجمع الشعراء على أن تكون رياستها لأمير الشعراء أحمد شوقي، وأن يكون الشاعران الكبيران أحمد محرم وخليل مطران نائبين للرئيس. ومن المفارقات أن أحمد شوقي توفي فجأة بعد أربعة أيام من الاجتماع الأول لهذه الجماعة، فكأن الله مد في عمر شوقي ليرأسها وليرأس اجتماعها الأول، وقد خلفه في رياستها خليل مطران الذي عاش كما ذكرنا حتى 1949 بينما توفي محرم 1945.
لا يمكن لنا أن نقفز هذه الفترة دون أن نشير إلى قمتين معاصرتين لهؤلاء الأربعة من قمم الشعر، أولهما محمد عبد المطلب الشاعر الكلاسيكي أو التراثي العظيم ومن الجدير بالذكر أنه ولد في العام الذي بين شوقي وحافظ أي 1871 وتوفي قبلهما بعام أي في 1931. أما الثاني فهو ولي الدين يكن الذي ولد بعد مطران بعام أي في 1873 لكنه كما نعرف توفي مبكرا جدا في 1921.
ماذا كان حظ أحمد محرم من دنياه؟
عاش أحمد محرم حياته للأدب، ولم ينل منه إلا ما كان يكفيه بالكاد، وقد عاش هذه الحياة بأخلاق نبيلة: كان كريما يبذل المال والفضل، كما كان صفوحا متسامحا لا يميل إلى الجدل، وكان فيه اعتزاز بشعره وشاعريته، وقيمه الخلقية الاجتماعية، وهو يعبر عن بعض هذه المعاني الخلقية السامية التي تمسك بها في قصيدة له بعنوان "الشعر والسياسية" حيث يقول:
والشعر أحكم مذهبا وشريعة.. من أن يدين به السفيه الأرعن
لا ينطق الشعراء حتى يُؤذنوا .. وأري الخلود لمن يجل فيـؤذن
وفي قصيدة أخري يفاخر بتمسكه بدينه وأخلاقه فيقول:
ظمئت وفي فمي الأدب المصفي* وضعتُ وفي يدي الكنز الثمين
وفي موضع ثالث يتغني مجاهرا بعفته وميله إلى الحق:
ولست ببائع نفسي وديني.. ولو أوتيت ملك المشرقين
لهذا سلطة ولتلك أخري.. فما بالي وبــال السلطتين
وفي موضع رابع يلخص مسيرة حياته العامة في قوله:
من أيادي الله أني لم أخن.. عهده الأوفي أروم المغنمـا
راودتني عصبة عن حقــه.. فأبي العـرق الكريم المنتمي
عفة تقذف بي عن همـــه.. تقذف النسر وترمي المرزمــا
مرحبا بالبؤس في أسبـابه.. عفة البائس عن أن يأثمـــا
وفي موضع خامس يقول في قصيدته "النفس الأبية":
ولم تخزني في مشهد ألمعيتي.. ولا خانني رأيي وصدق تفرسي
متي ما أقل قولا فلست بكاذب..أصــادي به نفعــا ولا بمــدلس
ينم تراث أحمد محرم الشعري عن ثقافة عريضة عميقة باللغة العربية وآدابها، وهي ثقافة ساطعة وناصعة بألفاظ شعره وأساليبه التي يحلق فيها لمستوي رفيع
مواقع التواصل
وعلي الرغم من أن اسم أحمد محرم لا يحظي بالإلحاح المباشر في الكتابات الأدبية والنقدية المعاصرة، فإن النقاد ومؤرخي الأدب المنصفين يعدونه واحدا من أهم شعراء عصر البعث الذين تمكنوا من إتقان الصياغة الشعرية وإعادتها إلى مستواها الرفيع في عهد الشعراء الفحول، وقد تميز شعره كما رأينا فيما اخترناه من نماذج سريعة بجودة الصياغة، وسهولة الألفاظ، وسمو المعاني، وفخامتها، كما تميز بجزالة اللفظ، وقوة الأسر، وسلامة المباني، وإحكام القوافي علي نحو لا نجده بالقدر نفسه في شعر شاعر من المعاصرين له، باستثناء شوقي وحافظ بالطبع.
وينم تراثه الشعري عن ثقافة عريضة عميقة في اللغة العربية وآدابها، وهي ثقافة ساطعة وناصعة في ألفاظ شعره وأساليبه التي يحلق فيها إلى مستوي رفيع، مع القدرة الفائقة على إطالة النفس في كثير من شعره الذي يحرص فيه على القافية الموحدة في القصيدة التي تصل أبياتها إلى ما يقرب من المائة بيت دون أن يفقد المستوي الرفيع فيها كلها، ودون أن ينقطع نفسه أو يجهد.
وبالإضافة إلى هذا كله فإن شعر أحمد محرم يمتاز بالوحدة الموضوعية، والتركيز على الأغراض النبيلة التي كان يعالجها من دون استطراد أو شطط. ولا نشك كذلك في أصالة أحمد محرم، وأنه خلق شاعرا مطبوعا وعبقريا موهوبا، وأن ملكته الفنية قد ظهرت وهو لا يزال في باكورة شبابه، وقد شهد له بذلك النبوغ المفكر بعض الذين قرأوا بواكير إنتاجه، وعاصروا مرحلة حداثته، ومنهم الشاعر أحمد الكاشف الذي تولي كتابة مقدمة ديوانه الأول. أما مضامين شعره فهي التي ترفعه عن مطران وعن غير مطران على نحو ما نرى في حديث آخر إذا قدر لنا عمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق