العلامة ابن باديس.. لطائفه التربوية ومنهجه القرآني (2)
د. علي الصلابي
مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي
اهتم العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس بالسنن الإلهية واعتبرها من أهمَّ سُبل الهداية القرآنية للإنسان المسلم. فبناء الدول وتربية الأمم والنهوض بها يخضع لقوانين وسنن ونواميس، تتحكَّم في مسيرة الأفراد والشعوب والأمم والدول. ولقد اهتم ابن باديس بفقه السنن الإلهية، وتعامل مع تلك السنن والقوانين بحكمة وقدرة فائقة.
1 ـ سنة تغيير النفوس:
قال تعالى: َ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ *} [الرعد: 11]. إن التغيير الذي قاده النبي صلى الله عليه وسلم بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية، وصنع منها الرِّجال العظماء، ثمَّ انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع، حيث نقل النَّاس من الظلمات إلى النُّور، ومن الجهل إلى العلم ومن التخلف إلى التَّقدُّم، وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها الحياة.
إن ابن باديس سار على هدي ونهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تغيير النفوس واهتم بالمنهج القرآني في تغيير العقائد والأفكار والتصور وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس تلاميذه وأبناء الشعب الجزائري، ورأى أهمية التربية والتعليم في إعداد جيل عظيم يكون من أهم أهدافه القضاء على الاستعمار، والطريق إلى ذلك: فهم المسلمين لدينهم، ويكون ذلك عن طريق إصلاح العلماء، لكي يقوموا بتعليم عامَّة الناس.
عمل ابن باديس بسنة الأخذ بالأسباب المادية والمعنوية للوصول إلى أهدافه، واهتم بالتنظيم والقيادة والمشروع، ووضعِ البرامج وإعداد الخطط وتحديد المراحل، وبيان متطلبات كل مرحلة |
وقال ابن باديس: صلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام وعملهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم الذين كيفما يكونوا يكون عموم المسلمين: فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل، فكذلك المسلمون يكونون.
2 ـ الأخذ بالأسباب:
يقول ابن باديس: إن أسباب الحياة والعمران والتقدم فيهما مبذولة للخلق على السواء، وإن من تمسك بسبب بلغ إلى مسببه، سواء أكان براً أم فاجراً، مؤمناً أم كافراً، والمسلمون لما أخذوا بأسباب العمران كما يأمرهم دينهم، سادوا العالم ورفعوا علم المدنية الحقة بالعلوم والصنائع، وحين أهملوا تلك الأسباب تأخروا، حتى كادوا يكونون دون الأمم كلها، فخسروا دنياهم وخالفوا مرضاة ربهم، وعوقبوا بما هم عليه من الذل والانحطاط.
فقد بين ابن باديس: السبب في التقدم والتأخر، وهو التمسك والترك للأسباب. لقد عمل ابن باديس بسنة الأخذ بالأسباب المادية والمعنوية للوصول إلى أهدافه، واهتم بالتنظيم والقيادة والمشروع، ووضعِ البرامج وإعداد الخطط وتحديد المراحل، وبيان متطلبات كل مرحلة، فاستخدم الوسائل الأتية:
1 ـ الدروس المسجدية.
2 ـ تعليم الناشئة وتربية الأجيال.
3 ـ أرسل الطلبة المتفوقين للدراسة بالزيتونة.
4 ـ إصدار الصحف والمجلات.
5 ـ إستغلال النوادي وفتحها.
6 ـ حضور التجمعات والمؤتمرات العامة والدعوة إليها.
7 ـ الدعوة الشعبية والاتصال بالجماهير.
8 ـ الاحتجاجات الشعبية والرسمية، الفردية والجماعية، وبواسطة الوفود والرسائل والبرقيات الاحتجاجية، على كل القرارات التعسفية التي أصدرتها الإدارة الاستعمارية في حق الجمعية ورجالها وطلبتها ومؤسساتها الدعوية ونشاطاتها الإصلاحية.
9 ـ تكوين الجمعيات الخيرية، والفرق الكشفية والرياضية والفنية، والجمعيات المهنية، كجمعية التجار المسلمين التي أسستها الحركة بقسنطينة.
3 ـ المرحلية وسنة التدرج:
من السنن المهمة التي تعامل معها عبد الحميد بن باديس: سنة المرحلية والتدرج، ذلك أن المشروع الذي نذر له الشيخ حياته هو تحطيم المشروع الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وهذا المشروع ضخم يتطلب جهوداً دؤوبة متواصلة، تكون بمثابة حلقات متسلسلة، تمثل كل حلقة مرحلة معينة، وهذه المراحل يجب أن تكون مشدودة إلى بعضها البعض، بحيث تكون المرحلة السابقة ممهدة للاَّحقة، واللاحقة مكملة للسابقة.
كان ابن باديس يعطي كل مرحلة حقها ولا يتطلب منها فوق طاقتها، إيماناً منه بأنه من السنن الكونية النافذة سنة المرحلية والتدرج
مواقع التواصل
يقول الدكتور محمود قاسم في كتابه الإمام عبد الحميد بن باديس الزعيم الروحي لحرب التحرير، ولقد وضع ابن باديس خطته على أساس مبتكر، يتلخص في أن يحاصر فرنسا في رفق وعزم صارم في الوقت الذي تظن هي فيه أنها تحاصر الجزائر، ولم تفطن فرنسا إلى مهارة هذه الخطة إلا بعد فوات الأوان، فوجدت نفسها محاصرة بعد أن نحَّى ابن باديس أعوانها طائفة بعد أخرى.
إذا كانت المرحلة الأولى مرحلة تقويض الأسس ونقض الأركان التي كان يرتكز عليها الاستعمار، لتجسيد مشاريعه وتحقيق أهدافه، وفي مقدمة هذه الأسس الطرقية التي كانت تخدر عقول الجماهير وتميت نفوسهم، بما تشيعه في أوساطهم من بدع وأضاليل، فكان من المنطقي أن يتوجه التفكير إلى وجوب البدء بمحاربة هذا الاستعمار الروحاني؛ لأن إدراك المرحلة ومتطلباتها، ومن أين يكون البدء، ولماذا؟ من أهم الأسئلة التي يجلب على المصلح الحصيف أن يجيب عنها.
كان ابن باديس يعطي كل مرحلة حقها ولا يتطلب منها فوق طاقتها، إيماناً منه بأنه من السنن الكونية النافذة سنة المرحلية والتدرج، وإن العمل الجماعي كان هاجساً بالنسبة إليه، ومع ذلك لم يسارع إلى تأسيس جمعية العلماء حتى وفرَّ لها كل أسباب النجاح وعدم الانتكاس، من جيوش جرَّارة من تلاميذه الذين كان يخرِّج منهم سنوياً المئات مُسلحين بالعلم الصحيح، والخلق القويم، ويجيوش جرَّارة من الجمهور على استعداد للدفاع عن الجمعية والتضحية عن مبادئها، بما كان يبث فيهم من وعي في دروس الوعظ في المساجد والمحاضرات في النوادي والمقالات في الصحف، وعودة كثير من طلاب العلم الذين توجهوا إلى المشرق العربي لمزيد من التحصيل العلمي والتكوين المعرفي. ولمَّا توفرت دواعي التأسيس وتحققت أسبابه كاملة تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
4 ـ سنة الابتلاء:
تآمر العلويون على اغتياله حيث ثقلت عليهم وطأة الحق الذي كان يقوله ولازال يقوله فيهم وفي أمثالهم، وانتدب أشقاها لقتله في قسنطينة وضربه الضربة القاضية لولا وقاية الله ولطفه |
مرَّ العلاَّمة ابن باديس وجمعية العلماء والشعب الجزائري بألوان من الابتلاءات والامتحانات العظيمة، فقد تعرَّضوا للتضييق في المعاش، وسفكت الدماء، وصودرت الأموال والممتلكات وأدخل السجونَ الأحرارُ المطالبون بحقوقهم الطبيعية في الحياة، وعملت السلطات الفرنسية على التضييق على المساجد والمدارس والجمعيات والنوادي، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا، وإنما استمروا في الكفاح والنضال المشروع.
وقد تعرَّض ابن باديس على المستوى الشخصي لابتلاء في الولد والنفس والأذية المعنوية والمادية، ووصل الأمر إلى محاولة اغتيال الإمام عبد الحميد ابن باديس ذات مساء من يوم 9 جمادى الثانية 1345هـ/ 14 ديسمبر 1926م، بعد قيامه لصلاة العشاء وفراغه من درسه اليومي بالجامع الأخضر وخروجه منه قاصداً بيته، وكانت عناية الله تحرسه فنجا من تلك المكيدة بمزيد من العناية الإلهية.
يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي: فقد تآمر العلويون على اغتياله حيث ثقلت عليهم وطأة الحق الذي كان يقوله ولازال يقوله فيهم وفي أمثالهم، وانتدب أشقاها لقتله في قسنطينة وضربه الضربة القاضية لولا وقاية الله ولطفه، ففي ذلك المشهد الذي تطيش فيه الألباب وتتفشى فيه روح الانتقام قوى الله الأستاذ ـ وهو أعزل ـ فأمسك خصمه الفاتك المسلَّح ولبَّبه بثيابه، ثم تجلَّى على قلبه المطمئن بالرحمة فقال ـ وجرحه يثغب دماً ـ للجمهور المتألِّب المتعطش لدم الجاني: إياكم أن يمسَّه أحد منكم بسوء حتى تسلموه للمحافظة.
إن معاملة الأستاذ الرئيس للجاني عليه بالرحمة والاستبقاء، وإطفاءه لثائرة تلك القلوب التي كانت تغلي حقداً عليه بتلك الجملة الرحيمة؛ لنفحة من نفحات الأخلاق النبوية التي يدعو الأستاذ ورفاقه إليها، وأساس من الأسس التي بنت عليها جمعية العلماء دعوتها، ومثل شرود في الرفق والرحمة والسلام، وحجة قاطعة لألسنة المتقولين على هذه الجمعية والرامين لها بالسوء.
مراجع المقال:
1- أندري ديرليك، عبد الحميد بن باديس.
2- عبد الرشيد زروقة، جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي.
3- عبد العزيز فيلالي وآخرون، البيت الباديسي.
4- عبد العزيز فيلالي، وثائق جديدة عن حياة خفية في حياة ابن باديس الدراسية.
5- علي الصلابي، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق