الاسلام السياسي هو أصل الاستئناف بشروط لابد منها الفصل الأول
الاسلام السياسي
هو أصل الاستئناف بشروط لابد منها
تونس في 12-08- 1439/ 28-04-2018
لا يحتاج الاخوان لأن يدافع عنهم أحد. لست منهم لكني أعتقد أنهم هم الأمل الوحيد رغم كثرة ما يعاب عليهم لتحديد مستقبل الامة ولن يحول دونهم وتحقيق ذلك أي قوة في العالم مهما تجبرت. وليس ذلك إلا مسألة وقت. فمعهم الأمة بأعماقها كلها وقد عادت جميعها إلى العمل الحي المتجه إلى المستقبل.
لم أقل مثل هذا الكلام قبل اليوم أعني قبل الحقبة الحالية من تاريخنا الحقبة التي يبدو فيها الإخوان هدف التصويب القتالي بالقلم وبالسيف من كل أعداء الامة سواء كانوا من الداخل أومن الخارج وخاصة من المنتسبين إلى أهل الفتنتين الكبرى التي عطلت النشأة الأولى والصغرى التي تعطل الاستئناف.
وما حفزني لكلام في الموضوع مشاركتي الأخيرة في ندوة جمعية النهضة العربية. فما سمعته وما رايته يقتضي أن أتكلم في المسألة لأنها جوهرية ولأن كل من يقدم نفسه بديلا من الحركة الشعبية التي تمثلها حركة الاخوان ليس لها قيام فعلي بالذات بل هم ظاهرات صوتية لا تعبر عن حقيقة الكيان.
فأن تجمع كل مليشيات القلم (مرتزقة الدولار) وكل مليشيات السيف سواء من ورثة الفتنة الكبرى (مليشيات إيران العربية) أو الفتنة الصغرى (مليشيات اسرائيل العربية) لا يمكن أن يكون ذلك محض صدفة بل لا من أن يكون ذلك من علامات ما يخفيهم في الحركة الشعبية التي يمثلها « الإسلام السياسي ».
يكثرون من الكلام عن « مابعد الإسلام السياسي » بمعنى تعزية أنفسهم بما بعدية زمانية يقصدون بها أن الإسلام السياسي قد انتهى دوره وأنا هنا سأكلمهم على ما بعدية معرفية: »ميتااسلام » أي ما به يكون الإسلام أساسا لاستئناف الامة دورها الكوني أعني منظومة المقومات المحددة لاستراتيجية الاستئناف
والمعلوم أن هذه المليشيات بصنفيها وراءها الأنظمة العربية بصنفيها القبلي والعسكري والتي انقسمت إلى توابع ذراعي قوى الهيمنة العالمية في الإقليم أعني إيران وإسرائيل وكلاهما يتأسس على اساطير دينية ويدعي الحرب على دور الدين الإسلامي الذي هو بالجوهر نقد أساطيرهم التي حرف الأديان.
لن يكون كلامي دفاعيا ولا من جنس رد الفعل. كلامي سيكون فعلا لا رد فعل وسيكون متعلقا بما ينبغي أن يحوز عليه الإسلاميون حتى تصبح فاعليتهم الشعبية قابلة لأن تكون فاعلية تجمع بين الحي من قيم حضارة الاسلام الكونية والحي من قيم التي تواصلها في ما تلا ازدهارها عند غيرها من الحضارات.
فلا يمكن لمن يؤمن بالقرآن أن يعتبر الخصوصي جوهريا بل لا بد من أن يكون الكلي في الحضارات مشتركا بينها وليس الخصوصي الذي يفرض بالقوة من حضارة على غيرها. وبهذا المبدأ القرآني لا بد من مراجعة استراتيجية الإسلام في دوره السياسي بصورة تمكنه من يكون كما هو رسالة كونية وليست خاصة بنا.
فقد تحالف أهل الفتنتين الكبرى والصغرى لتقزيم الإسلام والمسلمين وتبنى توابعهم هذه المحاولة التقزيمية وهم إلى خسران مبين لأن العالم كله اليوم بدأ يدرك ما حافظنا عليه من شروط الوجود الإنساني السوي على الأقل في الأحاديث رغم عزنا عن المحافظة عليه منها في الاحداث إلا بالصمود السلبي.
فليس بالصدفة أن حصل هذا التحالف وأن صرنا-كمسلمين-هدف الاستراتيجيتين الحربيتين بالسلاح اللطيف (الحرب الثقافية الرمزية) وبالسلاح العنيف (الحرب المادية الفعلية) منذ أكثر من خمسة قرون أعني منذ ما يسمى بحرب الاسترداد بعد صمودنا أمام الهمجيتين الغربية (الصليبيات) والشرقية(المغوليات).
كمسلمين أسلموا ولتزموا دون فرق عرقي أو ثقافي وخاصة للأربعة شعوب التي قام عليها وجود دولة الإسلام نشأة وحفظا إلى بداية الربع الأول من القرن الماضي: العرب أولا والأتراك أخيرا وبينهما الأكراد والأمازيغ. فالعرب نشأة والأتراك حفظا والأكراد تصديا للصليبية والأمازيغ للاسترداد.
وهذا أول مزايا الفهم الإخواني أو الإسلام السياسي. فهو متعال على العرقية والاثنية الثقافية لأن الكلام على العرب أو الأتراك أو الأكراد أو الأمازيغ هو المفتت الأول لشرط الاستئناف أعني للأحياز التي تجمعهم ليكون لهم شروط الاستئناف والدور الكوني: شرط الحجم المناسب لعصر العماليق.
أما الحركات التي تبنت فكرة القومية فهي فتتت الجغرافيا والتاريخ فحولت الأمة إلى ما هو أخطر من داء دويلات الطوائف الأندلسية لأنها أكثر منها صارت تؤسس شرعيتها كدويلات مزعومة وهي ليست إلا محميات على تفتيت التاريخ والبحث عن شرعية للمحميات في ما قبل التاريخ المشترك أو ما بعده.
عبارة « مابعد الإسلام السياسي » عندهم لا تتعلق بمجرد النبز بتوظيف الإسلام سياسيا بل هي تعني أساسا أن وحدة ا لجغرافيا ووحدة التاريخ انتهت والمحميات صارت شرعية ولا يمكن استعادة شروط الدور الكوني للأمة باسترجاع وحدة دار الإسلام وتاريخه محركين لفاعلية المسلمين في المستقبل.
فأكثر المتكلمين على هذا المعنى هم أكثر الناس توظيفا للإسلام ضد الإسلام لمنع استرجاعه دوره في التاريخ الكوني بتعطيل شروط هذا الدور أعني وحدة جغرافيته ووحدة تاريخه والأولى شرط التنمية الاقتصادية وشرط شروطها العلمية والتقنية والثانية شرط التنمية الثقافية وشرط شروطها الروحية والفنية.
وإذا كنت أعتقد أن الإسلام لن يسترد دوره من دون أن تسترد أمته دورها المشروط بتكامل جغرافية داره وتاريخ حضارته فإن حصر الدور في السياسي وعدم اعادة النظر في ما أحاول بيانه من علل الضمور الفكري والإبداعي في مجالات القيم الخمس هو الضعف الذي ضخم من تأثير أعداء الإسلام.
فالأمر شبيه بعلاقة المناعة بالجراثيم والفيروسات: ضعف المناعة هو علة فاعليتها. وضعف المناعة الحضارية ليس سياسيا فحسب لأن السياسة هي حصيلة ضعف المناعة خاصة والمناعة تتعلق بمقومات كيان الإنسان فردا وجماعة أعني بالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود.
فالإرادة وحدها لا طائل من ورائها إذ من شروط تحقيق حريتها أن تستند إلى إبداع علمي وقدرة اقتصادية وذوق حيوي ورؤية وجودية تمكن من شروط السيادة أي شروط الحماية وشروط الرعاية الذاتيتين. وهذه هي المجالات التي هي سر كل استراتيجية سياسية للحريتين الروحية والسياسية في أي جماعة.
صحيح أن السياسة هي في الأخير استراتيجية الاستراتيجيات في التربية تكوينا وتموينا للإنسان ماديا (كيانه العضوي) ورمزيا (كيانه الروحي) لكنها لا تنجح من دون تقسيم للعمل فتكون مؤلفة من مستويات لا تخلط بين السياسي من حيث هو إدارة الشأن العام والسياسي بهذا المعنى الاستراتيجي.
وعدم فهم هذه المسألة اعتبره علة اساسية في ما أصاب الحركات الإسلامية من عدوى الأنظمة العسكرية التي تخلط بين المهام فتعتبر أهم وظائفها جمعها بأيدي « الساسة » فتقتل كل المجالات الاخرى التي تصبح تابعة للسياسوية وليس للسياسة من حيث استراتيجية تنميات لا تتحقق من دون تقسيم العمل المبدع.
وإذا كانت دولة الرسول والراشدين لم تتخلق بدرجة تجعل التعضي فيها يصل إلى تقسيم الاعمال فاختلطت فيها الامور فذلك ليس عيبا فيها بل العيب في من تصور ذلك هو السياسة الإسلامية في حين أنه كان سياسة المرحلة التأسيسية غير المتعضية بالدرجة الكافية كما سأبين.
والتعضي الجنيني الذي بدأ يتمأسس قضت عليه الفتنة الكبرى وبسبب الحروب الاهلية الأربعة التي تلتها دخلت دولة الإسلام في أحكام حالة الطوارئ التي دامت أربعة عشر قرنا فأصبحت القوانين الاستثنائية هي السارية بتبرير الضرورات التي تبيح المحظورات ومن ثم فلا يقاس عليها تربية وحكما في رؤى الإسلام.
والخطأ الثاني الذي سأحاول بيان مخاطره هو توهم الدول تحكمها أخلاق القيمين عليها وحدها وليس البنى المؤسسية التي تحول دون طغيان هذا العامل حتى عندما يكون صالحا ناهيك عنه عندما يصاب بالفساد الممكن والحاصل في الغالب. ففقيه أو خليفة صالح لا يعني صلاح الدولة بل هو شذوذ يفيد عكسه.
ومعنى ذلك أن دولة الرسول والراشدين مثال أعلى من حيث البعد الخلقي لكنها ليست مثالا أعلى من حيث البعد السياسي لأنها خالية من المأسسة التي تحمي كيان الدولة من تحكم الخلقي الذي له دائما الوجهان الصلاح والفساد تماما كما هي حال الإنسان: ولسنا أدرى بالإنسان من وصف القرآن له.
فهو معرض في إرادته وفي علمه وفي قدرته وفي حياته وفي وجوده إلى الموجب والسالب منهما فتكون إرادته معرضة للصلاح والطلاح وعلمه للحق والباطل وقدرته للخير والشر وحياته للجمال والقبح ووجوده للجليل والذليل ولا يحميه من السوالب إلى ما حددته سورة العصر والشورى 38 ولم يتمأسس ليحمي الكيان.
فالوعي بعلل الخسر هو شرط الشروط. وحقيقة الخسر هي نقائض شروط الاستثناء منه وهي بعد هذا الوعي الذي هو أصلها بالنسبة إلى الحرية الفردية هي الإيمان والعمل الصالح وبالنسبة إلى الحرية الجماعية هي التواصي بالحق والتواصي بالصبر وكلها بحاجة إلى مأسسة.
وحتى نفهم ذلك فلنشر إلى أن الإيمان تضمر وصفا هو الصادق مثلما صرحت الآية بوصف العمل فوصفته بالصلاح. وإذا الإيمان الصادق يصعب اخضاعه للمأسسة لأنه من السرائر التي لا يعلمها إلا الله فإن التربية على الصدق يمكن أن يكون مأسسة له. أما العمل الصالح فهو قابل للمأسسة لأن العمل بمنتجه.
وما في العمل من منتسب إلى السرائر يهم العلاقة بالله مثل الإيمان كلاهما يعني المأسسة في العلاقة بين البشر يتعلق بالصدق للثاني وبالصلاح للأول. وكلاهما يقبل المأسسة وللجزاء موجبا أو سالبا في الدنيا أما يتعلق منهما بالسرائر فجزاؤه يوم الدين والتدخل فيه دنيويا يقلب القيم ويسلط الدولة.
ما سأراجعه-وكان على الإخوان القيام به ليس نيابة عنهم فلست منهم ولم أكلف من قبلهم-ليسوا هم أصله بل هو ناتج عما سبق أن وصفته من تعطيل للدستورين القرآنيين: دستور النظر والتربية فحرفت علوم الملة كلها عملا بعكس المأمور به (فصلت 53) والمنهي عنه (آل عمران 7) ودستور العمل والحكم (الشورى 38).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق