غرق فرعون وتاه الإسلاميون!
محمد جلال القصاص
باحث دكتوراة علوم سياسية
اشتد إجرام فرعون وجنوده فعاقبهم الله بالغرق، أخرجهم ربهم من جناتٍ وعيون ونعمةٍ كانوا فيها فاكهين، وأورث أرضهم وديارهم وأموالهم قومًا آخرين، ثم عاقب بني إسرائيل بالتيه أربعين سنة بأنهم أعرضوا عن منهج الله واتباع رسل الله. فلم يكن عقاب فرعون بداية النعيم لبني إسرائيل، وإنما انتهاء عذاب وبداية عذابٍ من نوعٍ آخر.
والآن احتشد عامة الإسلاميين حول المشهد الانتخابي فرحين مسرورين بانصراف الناس عن فرعون وجنوده مستبشرين بأن النصر على الأبواب؛ والسؤال: ماذا لو رحل فرعون وجنوده؟! أهو التمكين للمضطهدين، أم دخول في التيه؟! التجربة التاريخية في العلوم الإنسانية كالتجربة المعملية في العلوم الطبيعية، ولذا من المفيد جدًا استدعاء التجارب التاريخية المماثلة لما نواجهه من أزمات اجتماعية، ندرس الحال في ضوء ما يشابهه مما مضى، وأريد أن ألقي الضوء على عددٍ من التجارب المعاصرة لأضع ما نحن فيه في سياقه الطبعي:
في الحالة المصرية -والتجارب الأخرى قريبة منها مع اختلاف يسير في التفاصيل- أجهض عدد من الثورات كان التدين صلبها، أول هذه التجارب هي: نهضة الأمة في نهاية القرن الثامن عشر، تلك التي أجهضت على يد الفرنسيين. كانت نهضة في عددٍ من المجالات ثم تحولت لحالة من الرفض للمحتل، والأخطر في هذه التجربة هو تحول مسار النهضة إلى المسار الوطني العلماني (الدولة القومية) وتراجع التدين كمتغير في المشهد، وعلى يد أفراد معدودين. فبعد انتهاء الحملة الفرنسية على يد الإنجليز نهض غير المتدينين وأخذ بأسباب التغيير، وطبعًا ليس لنا أن نغفل دور العامل الخارجي الذي عاون محمد علي في المجال العسكري والمدني.
دخلنا التيه! كل كالذي يصعد داخل بئر لا ينهض حتى يسقط!! رأس مالنا هو المقاومة لا البناء!! ونفتقد المبادرة، ونستدعى من قبل غيرنا لتنفيذ مشاريعه الخاصة ثم حين ينتهي يثور علينا وينتقم منا. |
بدأ التجديد الديني في إطار رد الفعل للموجة العلمانية الهادرة، فكانت طلائع الصحوة الإسلامية على يد الشيخ رشيد رضا والشيخ طنطاوي جوهري والترجمة العملية لهما والتي تمثلت في حركة الإخوان المسلمين، وكانت فكرة الحركات الإسلامية (الجماعات) خصم وانحدار وتحزب داخل إطار الأمة قضى على فكرة نهضة الأمة ككل، أو قلل من حضورها، فأصبحنا نسعى لإقامة جماعة بدل إقامة أم. ثم جاء الأستاذ سيد قطب يتحدث عن فئة مؤمنة تواجه الأمة بدل النهوض بها واستعادة ماضيها، كانت الفكرة تظن السوء بالأمة أو هكذا تم فهمها!
وأصبح في الأمة تياران: علماني يمتلك أدوات الفعل ومدعوم من الخارج.. هذا الذي بدأ بعد رحيل الفرنسيين والتحق به النصارى في مجال الأدب والفنون ثم السياسة، والتحق به عامة المبتعثين للغرب والمتأثرين بالثقافة الغربية، وزاد قوة بعد ظهور التيارات اليسارية وانتشارها، ثم تمكن الدولة القومية من المجتمع، وخاصة بعد سيطرة العسكر على الدولة القومية؛ وتيار إسلامي صحوي يدفع يومًا بعد يوم عن المجال العام.. عن قيادة الأمة إلى المجال الخاص، بل ويُزاحم في المجال الخاص بالتدين الرسمي (الأزهر والصوفية والدعاة الجدد ومتديني العلمانيين..).
تعثرت مشاريع النهضة التي أقدم عليها السادات،
وفي كل مرة لا يسجل الإسلاميون حضورًا إلا حين يستدعيهم غيرهم في معركته الخاصة
أخذ العلمانيون بمبادرة النهضة، وظهر ما عرف بمشاريع التنمية في الأمة، واتجه الإسلاميين (للتربية والتنشئة على القيم الدينية)، وفشلت المشاريع التنموية في الأمة الإسلامية كلها بعد انتهاء الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي وبدء مرحلة جديدة من الهيمنة العالمية على العالم الإسلامي من قبل الأمريكان.
ثم بدأت مرحلة جديدة من الصحوة الإسلامية في السبعينات تتمحور حول التدين الفردي، ولا تتحدث مطلقًا عن نهضة الأمة (حديث النهضة جاء متأخرًا ومن داخل المنظومة العلمانية وليس من الصحوة)، وثانية تعثرت مشاريع النهضة التي أقدم عليها السادات، ثم تعثر من بعده وفي كل مرة لا يسجل الإسلاميون حضورًا في المشهد إلا حين يستدعيهم غيرهم في معركته الخاصة، كما استدعاهم السادات للقضاء على نفوذ الناصريين، وكما استدعى مبارك بعضهم في حربه مع بعضهم، وأحضروا لمشهد يناير 2011 لإحداث تحولات في اتجاه التمكين للمنظومة العلمانية.
دخلنا التيه!
هذه هي الحقيقة الأبرز.
كل كالذي يصعد داخل بئر لا ينهض حتى يسقط!!
رأس مالنا هو المقاومة لا البناء!!
ونفتقد المبادرة، ونستدعى من قبل غيرنا لتنفيذ مشاريعه الخاصة ثم حين ينتهي يثور علينا وينتقم منا وكأننا أعداؤه.
أصبحنا (جماعة) داخل الأمة، وكل يرى أن بقاء جماعته هو الانتصار للدين!!
إننا في التيه منذ قرون، ولا نتملك رؤية للخروج منه؛ بل ولا نكاد نعرف كنه هذا التيه، وحالنا اليوم كحالنا بالأمس رأس مالنا هو الرفض والمقاومة.. وقفنا ننتظر رحيل فرعون ومجيء آخر يكرمنا قليلًا ثم يستبيح حرامنا!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق