تسميم المشاعر من دوما إلى غزة
أنت بكيت على شهداء الكيماوي الجدد في دوما، واستنزلت اللعنات على المجرم بشار الأسد، ودعوت الله أن ينتقم للضحايا منه.. ثم جاءك نبأ القصف الجوي مطار بشار العسكري في تيفور، فتنفست الصعداء، وتمنيت مزيدا من الضربات العقابية للسفاح.
وفجأة تأتيك الأخبار: إسرائيل وليست أميركا هي التي قصفت مطار بشار الأسد، انتقاما لشهداء مجزرة دوما.. هنا، من الطبيعي أن ترتبك وتتأرجح بين مشاعر الرضا لمعاقبة مجرم حرب يقتل شعبه ومشاعر الغثيان من أن من يعاقِب القاتلَ، الذي منك، قاتل أكبر عليك.
يتكئ بعضهم على أريكة "ضرب الظالمين بالظالمين"، ولا يجد آخرون غضاضة في تسلق أشجار البراغماتية، لقطف بعض الثمار المكيافيلية، فيحدّثونك عن أن أي وسيلةٍ تعين الشعب السوري على فظائع حاكمه الطاغية مرحب بها، بالمنطق نفسه الذي أوصلنا إلى تلقي أخبار علاج ضحايا بشار في مشافي العدو الصهيوني، بغير دهشةٍ أو أسى، بل بكثيرٍ من الاعتياد البليد.
لو انتقلت من دوما السورية إلى غزة الفلسطينية، سيداهمك مشهد آخر: تعلن الصحف الصهيونية عن عرضٍ مقدم من القاهرة للفلسطينيين المحاصرين بفتح معبر رفح، الرئة الوحيدة لغزة، من الجانبين، فتجتاحك مشاعر ارتياح لخطوةٍ من شأنها إنهاء عذابات المحتجزين على المعابر، الممنوعين من المرور، بحثاً عن علاج، أو طلباً للعلم، أو زيارة إلى الأهل.. لكن ذلك كله يهتز بداخلك، حين تعلم أن مقابل فتح المعبر هو إنهاء أعمال مسيرات العودة التي انطلقت من غزة، وتفاعلت معها المدن الفلسطينية، وأزعجت المحتل الصهيوني.
هم باختصار شديد يمارسون تسميماً منهجياً، مدروساً بعناية، لمشاعرك الإنسانية وانتمائك الحضاري، فإذا أردت انعتاقاً من مذابح بشار الأسد، لا بد أن تقبل بأن يكون الحل، أو جزءٌ منه، صهيونياً، أو متضمناً المكوّن الصهيوني.
وإن حلمت بفك، أو تخفيف الحصار الذي يفتك بالفلسطينيين في غزة، فلا مناص من أن ترتضي أن يكون ذلك في إطار صفقةٍ، أشبه بأعمال السمسرة، يحصل الكيان الصهيوني فيها على مكاسب كبيرة، كي يذهب بعض الفتات إلى الفلسطينيين.
في هذه الأجواء المشبعة بعوادم الغازات السياسية السامة، من الطبيعي أن يطل محمود عباس بوجهه، ويمد يده ليغترف من ماعون الصفقة: إما نتسلم كل شيء في قطاع غزة، السلطة والسلاح والأمن، وإلا لن نكون مسؤولين عما يحدث هنا.
هذا ما قاله عباس لوفد المخابرات المصرية الذي ذهب سريعاً لإيجاد مخرجٍ ينقذ إسرائيل من نتائج وتطورات مسيرات العودة التي تستعد لاستقبال جمعتها الثالثة، ونجحت، عبر الجمعتين الماضيتين، في إعادة صياغة الموضوع الفلسطيني على الوجه الصحيح: وطن احتله أوغاد ولصوص قرّر أن ينتفض، ويقول للعالم إن كل فلسطين للفلسطينيين، ويستخرج جوهر القضية من تحت ركام التسويات والصفقات وأعمال السمسرة والتجارة واللهو، تلك الأعمال التي يمارسها الجيل الثالث من عرب الانبطاح والتبعية، المهرولين للحصول على الإسناد الإسرائيلي، في رحلات صعودهم، واستقرارهم، فوق مقاعد السلطة.
هو المنطق المسموم ذاته، يلعب به محمود عباس، وهو مدركٌ تماماً أن هناك من يكافئه على المقايضة المزدوجة الشريرة، فمن ناحيةٍ يطرح نفسه من جديد جامعاً ما يضمن أمن إسرائيل، ومانعاً كل أشكال المقاومة، من مسيرات عودةٍ ترجّ الأرض، وتكتب بدخان الكاوتشوك المحترق فوق السحاب: عائدون.
ومن الناحية الأخرى، يلعب على غرائز طلب الاستقرار ودوران عجلة الحياة لدى قطاعات من الشعب الفلسطيني في غزة، أنهكها الحصار وأوجعها الاحتلال، بحيث تتحول المسألة من حلمٍ بالتحرير إلى طلب تحسين شروط الاحتلال والحصار.
بالإجمال، ليس كل ما سبق محض مواقف تتشابه وتتقاطع، بل نحن بصدد مشروعٍ، مدروس، يضع المواطن العربي في مأزق وجودي شديد الوطأة، فإما أن تتخلى عن قناعاتك ويقينك وثوراتك، أو تبقى معذّباً محشوراً في مكابدات وصنوف من المعاناة لا تنتهي.
إما أن تقبل بإسرائيل، مكوناً رئيسياً في معادلة الشرق الأوسط الجديد، أو فلتقض حياتك تحصي أعداد الشهداء، وترتب تواريخ المجازر والفواجع.
المجد لمن حافظ على يقينه، وأدرك أن العدو صهيوني، ويخدمه طغاةٌ صغارٌ وكبارٌ يحكموننا بالحديد والنار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق