عطور العفاسي... أنعشتني!
خواطر قلم
د.محمد العوضي
بهذه الكلمات بدأ أديب العربية مصطفى صادق الرافعي فصله الذي عنونه بـ «زجاجة العطر» في كتابه «أوراق الورد».
وبقية السطور التي تدفقت من معين الرافعي لا تصلح أن تروى إلا بين زوجين يفنى أحدهما بالآخر حباً وهياماً.
ما الذي جعل ذاكرتي تستدعي هذه الكلمات المعطرة؟
إنه اللقاء الحميم مع الأخ العفاسي الذي تم بين السماء والأرض واستغرق لحظات جميلة.
منذ شهر تقريباً، وفي عطلة الأسبوع الجمعة في تاريخ 2018/3/16 وعلى مدى يومين عشنا فيهما أجواء مفعمة بمشاعر التراحم والتلاحم، وذلك في مؤتمر عقد في إسطنبول شارك فيه عشرات الجمعيات واللجان الخيرية الرسمية والأهلية من الخليج إلى المحيط، كما كان لبعض ذوي الاحتياجات الخاصة المشهورين حضور لافت لأن المؤتمر كان عن الأطراف الاصطناعية لضحايا الحروب والنزاعات المسلحة.
على متن الطائرة، ونحن في الطريق إلى اسطنبول، اقترب مني أحد المواطنين فرحب ومدح وشكر بكلمات فيها الشيء الكثير من المبالغة وعرفني بنفسه مشعل العفاسي.
وبعد الحوار السريع عن الهموم العامة، أفادني مشكوراً بمقترحات لتناول موضوعات وإشكاليات اجتماعية طارئة في حياتنا لا بد من تسليط الضوء عليها لبرنامجي الرمضاني على قناة «الراي».
وانتهى اللقاء اللطيف والتقطنا بعض الصور وافترقنا، لكن سرعان ما التقينا على متن الطائرة بعد ثلاثة أيام، إذ كانت عودته إلى الكويت في التوقيت ذاته لتاريخ عودتي لحسن حظي.
وقبل هبوط الطائرة بنصف ساعة، أتاني المضيف وفي يده كيس وقال «هذا من أحد المسافرين طلب مني توصيله إليك»، فتحت الكيس وإذا بهدية زجاجة عطر فاخر مع ورقة سطر فيها كلمات تجعل الوجه يحمرّ من الخجل لما فيها من الثناء برائحته الزكية ما يفوق نفحات الطيب الباريسي.
وقد كتب في آخر الرسالة أخوك: مشعل العفاسي من منطقة إشبيلية بالكويت ووضع رقم هاتفه.
مثل هذا الموقف يتكرر كثيراً، ودلالاته لا تحتاج إلى بيان، فهي تجسيد لمشاعرنا تجاه من نحب بالكلمات والمواقف والهدايا والأمنيات الطيبة والدعوات الصالحة.
وهنا بيت القصيد، فكم مرة أعيد وأؤكد على قيمة عليا أصارح بها رموز الدعوة والتربية والتوجيه ممن تصدروا المشهد الحياتي العام وصاروا تحت أضواء مجتمع الشهرة الكاشفة، أقول لهم لاحظوا أن من طبيعة الناس أنهم يرصدون الرموز ويتابعون أخبارهم وربما يحبون التواصل معهم بقطع النظر عن المجال الذي اشتهروا به، رياضي، فنان، داعية، مفكر، شاعر، مدرب، سيكولوجي، سياسي، أمني…
وتلاحظ أن الناس يلتقطون الصور مع المشاهير، لكن ثمة خصوصية هي محل التركيز والانتباه، أن الناس الذين التقطوا الصور إعجاباً أو فضولاً أو إشباعاً لحاجة نفسية إن كان لديهم هموم خاصة، فإنهم - في الغالب الأعم - يطرحونها مع الداعية الجماهيري سواء كان أكاديمياً أو واعظاً أكثر من طرحها مع اللاعب أو الشاعر أو الفنان أو المغني.
فكثيراً ما يخلو بك الناس ليفصحوا عن خلجاتهم وبعض خصوصياتهم بحثاً عن استشارة أسرية أو شخصية.
وبقطع النظر عن أهلية الداعية وقدرته على إعطاء الإرشادات العامة المناسبة أو النصيحة الدقيقة في ما يستشار به، إلا أن المحبة والأهم (الثقة) التي حظيها الرمز الديني المشهور لدى جماهير الناس يعد رصيداً من المكانة التي يحظى بها في نفوسهم.
أين يكمن التحدي؟ ومتى تقع المصيبة؟
عندما يضعف الرمز الديني كأي بشر تتجاذبه المغريات، فيموت ضميره وينكسر عمود القيم التي تغنى بها طويلاً، فيقوم باستغلال محبة الجماهير وثقتهم بأبشع استغلال!
وكم رأينا وقرأنا ما حصل من انحرافات مؤلمة لبعض من امتهن الرقية الشرعية واستثمارهم البشع لمشاعر الناس البسطاء.
وكم استمعنا وقرأنا من تهويشات وشطحات لبعض من تلاعب بعقول الناس ونفوسهم وباع الأوهام باسم تفسير الأحلام!
بل كم طار الإعلام فرحاً بفتاوى سخيفة وشاذة ومضحكة لرموز دينية صارت محط استهزاء وتندر عند عامة الناس!
وكم صدم الناس من تعاملهم المالي وضاعت حقوقهم بسبب ثقتهم بهذا المستثمر المتدثر بالهيئة الدينية فابتلع مستحقات العباد.
أخيراً، فإن زجاجة عطر العفاسي وكرمه وإطراءه قتلتني خجلاً، وألجمت لساني عن الرد وأنعشتني فاستخرجت من حفريات ذاكرتي تاريخاً طويلاً من صداقاتي مع آل العفاسي الكرام منذ كنت طالباً في الثانوية إلى الجامعة إلى الوظيفة إلى اليوم، ابتداءً بالعلاقة الوطيدة التي كانت تربطني بالراحل وزير العدل الأسبق محمد العفاسي رحمه الله الرجل الصالح صوام الإثنين والخميس المتصدق. فمنذ كنا شباباً في مسجد الحمد بالرابية إلى أن تقلد أعلى المناصب العسكرية، وصولاً إلى منصب الوزير، لم تتغير سجاياه الكريمة وما زادته المناصب إلا تواضعاً...
لم أذهب إليه في شفاعة أو مظلمة إلا وسعى بكل ما يملك من قوة في تنفيذها...
والحديث عن الكرام والأخلاق الممزوجة بالعطور عملت فعلها في النفس، وبقي أن أستكمل المشوار في مقال قادم عن هذه الأسرة الكريمة، لكن من زاوية ما ثار في الساحة الكويتية مع وزير العدل والأوقاف الحالي فهد العفاسي، وهو امتداد لأبيه في سجاياه. فقد تعرض لهجمات متتالية بسبب خطبة الجمعة عن الإلحاد وإعلانات الحجاب!
لم أكتب عنها شيئاً لانشغال مقالاتي السابقة في معركة مفاسد التعليم العالي.
لكن العطور فتحت الشهية للمصارحة، وربما المساجلة المستحقة حول الأوقاف بين مستوى الخطاب الديني والتحريض العلماني.
mh_awadi@
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق