د.بشير موسي نافع
رتب المؤتمر الصحافي لوزير الخارجية ورئيس الحكومة التركية السابق، أحمد داوود أغلو، بعد ظهر 26 نيسان/إبريل، على عجل، ولكن اللغة التي استخدمها في بيانه كانت واضحة، مفكر فيها، ولا تحتمل التأويل.
قال داود أغلو إنه لم يفكر مطلقاً في التخلي عن عضويته في حزب العدالة والتنمية وإن الحزب اختار الرئيس رجب طيب إردوغان مرشحاً لخوض الانتخابات الرئاسية، وأنه بالتالي سيدعم الرئيس في المعركة الانتخابية لعدة أيام، كانت التكهنات حول موقف داود أغلو في الرئاسيات أحد أبرز مسائل الجدل الذي أطلقته الدعوة لانتخابات مبكرة في البلاد.
والسبب، أو الأسباب التي تقف خلف أهمية موقف داوود أغلو معروفة على نطاق واسع في دوائر السياسة التركية، بل وحتى خارجها. لم يزل الأستاذ الجامعي، الذي دعي من قبل قادة العدالة والتنمية إلى الساحة السياسية قبل ما يزيد عن العقد ونصف العقد، يتمتع بشعبية ملموسة، سيما في أوساط شريحتين بالغتي الأهمية لتحديد نتائج المعركة الانتخابية: فئة المحافظين الحضريين من أبناء الطبقة الوسطى، والمحافظين الكرد في جنوب شرقي البلاد.
في 13 نيسان/أبريل، عندما قام داوود أغلو بزيارة مدينة ديار بكر، عاصمة تركيا الكردية، احتاج أكثر من ساعة ليصافح المستقبلين، قبل أن يصل جامع المدينة الكبير للصلاة.
وكان داود أغلو استقبل الرئيس التركي السابق، عبد الله غل، في 23 إبريل/نيسان بإسطنبول، ورفع بذلك وتيرة التكهنات حول طبيعة الاصطفافات في الانتخابات الرئاسية.
والمؤكد أن غل طلب من داود أغلو مباشرة دعمه في المعركة الانتخابية. ولكن الأخير، الذي أكد على عرى الصداقة والاحترام للرئيس السابق، أعرب عن اعتذاره والتزامه بموقف حزب العدالة والتنمية، الذي ينتمي له الرجلان.
وإلى جانب عدة تطورات أخرى، يمكن القول أن رفض داود أغلو تأييد ترشح عبد الله غل كان له الدور الرئيسي في إحباط مشروع الرئيس السابق والمجموعة التي التفت حوله، وتصورت أن بإمكانها أن تضع نهاية لرئاسة أردوغان، وربما حتى لحياته السياسية.
ولكن، في واحدة من أكثر بلدان الشرق الأوسط تسييساً، لم تمض الأمور كما تمنى أنصار غل. خلال أسبوع واحد فقط على الإعلان عن انتخابات مبكرة في تركيا، صعدت أسهم غل وحمى التوقعات التي أطلقها مشروع ترشحه بصورة غير مسبوقة، ومن ثم أخذت في الانحسار.
وبدلاً من أن تصبح انتخابات حزيران/يونيو المقبل المبكرة مناسبة لنهاية حياة أردوغان السياسية، يبدو أن الرئيس السابق، والمؤسس الشريك للعدالة والتنمية، في طريقه إلى الانسحاب نحو سنوات من التقاعد الممل.
عند فوز العدالة والتنمية، الذي كان أسس قبل أقل من عامين، المفاجئ في انتخابات نهاية 2002، تسلم غل رئاسة أولى حكومات الحزب، نظراً لأن زعيم الحزب، زميله وصديقه، أردوغان، كان لم يزل تحت طائلة حظر سياسي قضائي مسبق. خلال شهور قليلة، وبعد انتهاء مدة الحظر، فاز أردوغان بمقعد في البرلمان، وتسلم قيادة الحكومة، بينما أصبح غل وزيراً للخارجية.
في 2007، وبالرغم من أن وضع العدالة والتنمية في الحكم كان لم يزل قلقاً، أبدى غل رغبته في الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية. ولكن تحالفاً بين المؤسسة القضائية، الجيش، وحزب الشعب الجمهوري المعارض، نجح في منع غل من الحصول على الأغلبية الضرورية للفوز بالرئاسة. خاض المعارضون لغل المعركة باسم منع زوجة المرشح المحجبة من دخول القصر الذي شهد رئاسة مؤسس الجمهورية وأول رئيس لها، وعملوا على أن يكون إفشال غل الخطوة الأولى نحو إطاحة العدالة والتنمية وحكومته.
وربما حسب عدد من قادة وكوادر العدالة والتنمية أن الحزب تسرع في طرح اسم غل، وأنه كان من المبكر محاولة الحصول على مقعد الرئاسة. ولكن أردوغان لم يتراجع. دعا رئيس الحكومة إلى انتخابات برلمانية عاجلة، جاءت برفع نصيب الحزب من أصوات الناخبين وزيادة عدد مقاعده في البرلمان؛ ومن ثم انتخاب غل رئيساً للجمهورية.
اتسمت ولاية غل الرئاسية بدفء العلاقة بين الرئيس، ذي الصلاحيات المحدودة، ورئيس الحكومة؛ ولكن هذه العلاقة لم تخل من التوتر، سيما خلال العامين الأخيرين من رئاسة غل. في 2013، عندما نظمت مظاهرات ميدان تقسيم، في ذروة ردة الثورة المضادة في الجوار العربي، أظهر غل، بخلاف أردوغان، بعضاً من الاستعداد للتراجع أمام المتظاهرين.
كما أن البعض يقول أن غل شعر بالامتعاض لعدم التجديد له في الرئاسة، معتقداً أن تغيير قانون الانتخابات الرئاسية يسمح له بالبقاء في موقعه، إن قرر حزب الأغلبية، حزب العدالة والتنمية، ذلك.
في 2014، انتهت رئاسة غل، وانتخب أردوغان رئيساً للجمهورية في أول انتخابات رئاسية مباشرة. وفي صيف 2016، أظهر غل دعماً صلباً لأردوغان في مواجهة المحاولة الانقلابية. ولكن الخلافات بين الرجلين عادت إلى الظهور، في العام الماضي، عندما دعت حكومة العدالة والتنمية لاستفتاء شعبي حول تعديلات دستورية، تنقل البلاد إلى النظام الرئاسي.
خلال الأيام القليلة التالية للإعلان عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في 24 يونيو/حزيران المقبل، برز اسم غل باعتباره مرشحاً محتملاً لخوض الرئاسيات في مواجهة أردوغان، الذي لم يكن ثمة شك في أنه سيكون مرشح العدالة والتنمية.
رسمياً، كان حزب السعادة، وريث حزب الرفاه الذي ضم أردوغان وغل يوماً، تحت قيادة الراحل الأسطوري نجم الدين أربكان، من تبنى مشروع ترشح غل للرئاسة. ولكن الحقيقة أن الفكرة تعود لشهور مضت، وأنها دارت في أوساط أحزاب يسار الوسط الكمالي، كما في الأوساط المحافظة المعارضة لأردوغان.
في دورة تداولها الأخيرة، تطورت فكرة ترشح غل إلى مشروع لكافة أحزاب المعارضة، من كافة التوجهات الإيديولوجية، إضافة لعدد من المغتربين عن العدالة والتنمية. وبدأ عدد من الأخيرين، بمن في ذلك بشير أطلاي، سعد الله إرغن، وعلي باباجان، العمل على حشد القوى السياسية المختلفة خلف الرئيس السابق.
وليس ثمة شك أن غل كان راضياً عن هذا التحرك؛ ويشير لقاؤه بداوود أغلو، وطلبه دعمه، إلى أنه اتخذ خطوات جادة في طريق الإعلان الرسمي عن الترشح. في النهاية، بالطبع، لم يستطع أنصار غل ومن تبنوا مشروع ترشحه توفير إجماع سياسي معارض ومظلة كافية للمشروع. ولم يكن ثمة بد من أن يعلن غل انسحابه من ساحة المعركة، حتى قبل ولوجه إليها.
كان بإمكان غل، بالتأكيد، خوض المنافسة بغض النظر عن حجم الغطاء السياسي لترشحه، والعمل على أن لا تحسم الانتخابات في دورتها الأولى. وفي حال انتقلت المواجهة إلى دور ثان، وكان أردوغان وغل من حصلا على أعلى الأصوات في الدور الأول، فليس ثمة شك أن قوى المعارضة كافة كانت ستدعم غل؛ ويتضح حينها ما إن كان قادراً على إيقاع الهزيمة بأردوغان. ولكن الرئيس السابق ليس معروفاً بخصاله القتالية، على أية حال؛ وهذا هو موضع ضعفه الموروث.
مشكلة مشروعه الأخرى، أنه بدأ تحركه بالحديث إلى النخبة السياسية، وجعل همه حشد الأحزاب المعارضة خلفه. لم يتحدث غل إلى الشعب، ولا وضع ردود الفعل الشعبية في حساب خطواته الأولى. في الوقت نفسه، كان أردوغان يجيب معارضيه بلغة لا تخطئ هدفها: "الشعب هو من جاء بي، والشعب وحده صاحب الحق في اختيار رئيسه المقبل".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق