الخميس، 17 مايو 2018

تراث الإمام حازم أبو إسماعيل




تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----1----‬

بقلم الأستاذ
محمد إلهامي
إن مادة الإسلام تذوب جميعا في الخلق، فجوهر الإسلام –بعد العقيدة- هو الخلق؛ تذوب فيه العقيدة والشريعة، هو القوام الذي يحتوي كل هذا.
وانظر وتأمل في قول الله تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، فكأنه سبحانه وتعالى يقول: مهما كان الدين دين اهلل، وكان الذي يتحدث به هو سيد خلق الله رسول الله، والكتاب كتاب الله، والكلام كلام الله، والعباد عباد الله، والأرض أرض الله.. مهما اجتمع ذلك كله فإنك لو {كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.
فلا سلامة العقيدة، وﻻ كونها دين الله، وﻻ كونها مرسلة مع رسول الله.. إلخ، بعاصمة من تفرق الناس عن الدين إذا لم يكن الخلق حسنا.
ولذلك، فأحيانا ما يقابل المرء إنسانا يظهر منه حسن الحال، ويراه الناس هكذا ويثنون عليه، لكن يبقى في الصدر حرج منه، لا تستطيع أن تطمئن إليه أو أن تضعه في المنزلة العالية التي يبدو أنه مستحق لها، مع أنك إذا نظرت إلى علاقاته مع أصحابه وإخوانه تجدها ممتازة. ثم أدركت لماذا؟!
إن المحكَّ الحقيقي لمعرفة الإنسان هو أن تراقبه وتختبر علاقاته مع من يخالفهم ويشاجرهم وإن كانوا على الباطل، سينكشف لك عادة أنه ضعيف الخلق، فتراه بذيئا، أو عنيفا، تراه إذا خاصم فجر! فتدرك ساعتها أن ما يظهر عليه من حُسْن الخلق ليس لأنه حَسَن الخلق، وإنما لأنك تراه في الموضع الذي على هواه، في البيئة التي تريحه، أو أنه في بيئته تلك يتصنع حسن الخلق لما يجد نفسه فيه من حرج أو خجل أو اضطرار.
لكن اختبار حسن الخلق يظهر حين يختبر في الخلاف. ولهذا قال النبي (ص) في آيات المنافق: "إذا خاصم فجر" ، وكأنه يقول: إذا وادَّ (أي: وادد، كانت فيه مودة) فهو لطيف وظريف
تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----2----‬


إن جمهور الأمة الإسلامية لا يعرف فى الحقيقة من هو رسول الله؟
فلنكن صرحاء.. إن أغلبنا يعرف واقعة أو قصة، مثل جمعه الحطب، وأنه رحيما بالصغار، وكان رحيما بالكبار، لكن النادر القليل هو من يستطيع أن يعبر عن شخصية رسول الله (ص) تعبيرا كاملا حتى كأنك تراها.
ذلك أنه لم يُقصد أن نتعلم ونعلم شخصية رسول الله، بل مجرد شذرات تقال في المناسبات، فإذا أريد الحديث عن الرحمة استدعي من مواقف النبي ما فعله في الرحمة، أو أريد الحديث في العدل استدعيت مواقف العدل، أو الشجاعة استدعيت مواقف الشجاعة.. إلخ.
لا بد أن نصحح هذه الصورة التي تنسب إلى النبي حسن الخلق وسمو الطباع لكنها تجهل ملامح شخصيته: كيف يفعل إذا أقبل وإذا أدبر وإذا تصرف وإذا ماكان في موقف غضب أو موقف رضا.. إلخ.
***
وأهمية التعرف على شخصية النبي (صلى الله عليه وسلم) هو في أنها تقربنا من حقيقته الكاملة، وذلك أن الشخصية الواحدة فيها متقابلات، فقد تجد إنسانا بالغ الحياء وهو –لهذا- ليس شجاعا ولا مقداما، بل إن حياءه قد يؤذيه ويدفعه إلى السكوت عن منكر.
وقد تجد إنسانا غضوبا للحق لا يقبل أن ينتهك الحق عنده ويثور لكي تعود الحقوق لأصحابها، ولكنه تعود هذا الغصب فما يستطيع أن يكون رفيقا سمحا حلوا طيبا.
ولذلك فمن القصور أن يتحدث الداعية عن الخلق الواحد فيستقر في أذهان السامعين دون أن يتحدث عن الأخلاق المقابلة التي قد تشتبه به أو قد تتعارض معه. ومن هنا فإن القلة القليلة هي التي تعرف على التيقن والحقيقة شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم).
إن الداعية إذا تحدث مرة عن سماحة النبي ورحمته، ثم تحدث مرة أخرى عن زهده، ومرة ثالثة عن عبادته، ومرة رابعة عن شجاعته.. فإنه يخطئ حين يترك التوفيق بين هذه الأخلاق للناس دون أن يبين ذلك لهم. فالناس لا يستطيعون الجمع والمزج بين هذه الأمور كعلم يصلون به إلى الحقيقة.
ومن هنا تفقد الأمة التصور الكامل لشخصية النبي (ص) فتفقد بذلك حسن الاتباع والتطبيق لقول الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].. إذ كيف يعرفون الأسوة الحسنة؟!
ربما الواحد منهم يذهب إلى المسجد مبتسما ويصافح ويبش في وجه صاحبه، ويظن هذا تطبيقا لسنة "اللقاء بالناس"، لكنه إذا عاد إلى البيت غضب وتجهم، ويظن أن هذا "غضب للحق"، كأنما ليس في البيت سنة للقاء الأشقاء أو الوالدين، وكأنما ليس في الطريق أو المسجد غضبا لانتهاك حرمة الله!
ولهذا ففي التعرف على شخصية النبي نعرف ونتعلم كيف نقابل بين الصفات لنخرج منها مفهوما واحدا وصياغة واحدة ومعنى واحدا.
إن أكثر الذين يظنون أنهم يقتدون برسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يقتدون به إلا المظاهر والقشور، وقليل جدا من الناس من اهتم بالاقتداء به (صلى الله عليه وسلم) في الأمور الكبرى.
انظر مثلا إلى كفاءة النبي (ص)، وانظر كم من يقتدي بها؟
قد يعجب الرجل برجل لصفاته الشخصية: هدوئه واتزانه وتبسمه وأدبه والتزامه بالمواعيد ولطفه.. لكن بمجرد أن يُكلَّف بعملٍ إذا بالعمل ينهار بين يديه، لأنه ليس كفئا، لا يعرف كيف يدير العمل.
والعكس صحيح أيضا: فقد يعجب المرء بإنسان كفء تشهد له نجاحات العمل بالأرقام والأوراق، فما إن يلقاه حتى يجده سيئ الأخلاق: سليط اللسان أو كذاب أو منافق أو لا يلتزم بالمواعيد.
ولذلك لا ينبغي أن تعجب حين ترى هذه النماذج، ولا ينبغي أن تندهش كيف فشل هذا وهو صادق وأمين وملتزم وكيف نجح هذا وهو كذاب ومنافق. ذلك أن الكفاءة شيء والأخلاق والمميزات شيء آخر.
ولذلك نخطئ جميعا حين نتحدث عن شخصية النبي (ص) فلا نذكر عنها سوى هذه الأخلاق والسجايا، ونخطئ حين نظن أن الاقتداء به هو في مجرد التحلي بهذه الأخلاق والسجايا، دون أن نتحدث ودون أن نتقدي بكفاءته (ص). ولذلك تجد كثيرا من المسلمين قد يُعجبون بنابليون بونابرت أو هتلر أو الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية أو غيرهم من الملوك والسياسيين والمصلحين، ولكنهم لا يفهمون –حق الفهم- لماذا نضع النبي (ص) على قمة هؤلاء؟! لأنهم لا يعرفون النبي (ص) في جانب الكفاءة.
تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----3----‬
يسأل سائل: ما بال النبي (صلى الله عليه وسلم) قد عبس وتولى في وجه الأعمى، مع أن أخلاقه بلغت المثالية المطلقة؟
وهذا سؤال يدل على ذهن حاضر ووعي يقظ، والإجابة كالآتي:
أولا: الأصل أن عبد الله بن أم مكتوم هو من كان ينبغي عليه أن ينتظر النبي حتى يفرغ من حديثه مع ملأ قريش، ترى لو جئتني وأنا في حديث مع آخرين، ثم اقتحمت على الكلام وسألت عن أمر لا يتعلق بما كنا نتحدث فيه، هل أكون مخطئا لو أني تضايقت من ذلك؟ وربما أكون في منتصف الإجابة أو قبل نهايتها بقليل؟
وثانيا: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يقع أبدا في أي نوع من الإساءة أو قلة الخلق –حاشاه- بل إنه لم يقل له: انتظر! وإنما عبس في وجه أعمى، أي أن الأعمى لن يرى هذا العبوس أصلا، إن عبد الله بن أم مكتوم لم ير عبوس النبي، ولم يقع له أي ضرر نفسي، والجزء الذى يتعلق بالإرضاء النفسى لعبد الله بن أم مكتوم كأعمى حصل فعلا، فقد سأل فأُجِيب!
فلماذا إذن عاتب الله نبيه (صلى الله عليه وسلم) في هذا؟
والإجابة:
أولا: إن أصدق ما قيل في هذا أن الله يصحح لنبيه الفهم، ويضع مقياسا جديدا فى الدعوة، ذلك أن خلق النبي البالغ الرحمة والحرص وصل به إلى فوق ما هو مطلوب منه في دعوة المعرضين، فكأن الله تعالى يقول له: ليس مطلوبا منك أن تبذل كل هذا في دعوتهم حتى الإعراض عمن {جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى} [عبس: 8، 9]، فإن هذا هو الأولى. فذلك تصحيح للفهم والمقاييس.
وثانيا: أن الله ذكر في كتابه وعاتب نبيه على شئ لم يره أحد، بل هو شيء في عالم السرائر، فأراد أن يصحح له أنه لا يليق بالنبي (صلى الله عليه وسلم) أن يعبس ويتولى عن الرجل الأعمى من المؤمنين ولو قطع عليه الحديث مع المشركين، فليس عليه أن ينشغل بالمشركين المعرضين عنه وإنما عليه أن ينشغل بالمؤمنين المقبلين عليه.
فالمسألة ليس فيها أي نقص أخلاقي من النبي (صلى الله عليه وسلم) –حاشاه- فإنه أراد أن يقول "ليس هذا وقته"، وهذا صائب في ميزان الأخلاق. وإنما المسألة تصحيح فهم.
لقد تولى الله تربية رسوله بنفسه، فتدخل لكي يصحح له المقاييس فيرشده إلى أن هذه زيادة في الرحمة غير مطلوبة، مثلما حدث في قصة أسرى بدر، فقد عوتب النبي لما عنده من زيادة الرحمة إذ أراد أن يعفو عن الأسرى.
نعم.. إن خلق العفو خلق عظيم ولكن لأن الله يتولى تربية رسوله بأخلاق هي "كان خلقه القرآن" ، كان يحدد له هذه القيم، فهو تصحيح لفهم الأمة ولفهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) للأخلاق التى يرضاها الله، فالآية نزلت لمعالجة فهم لا لردِّه عن قصور.
تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----4----‬
لقد كانت تنظف مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) امرأة عجوز سوداء، سفعاء الخدين، نحيفة، وذات يوم سأل النبي (صلى الله عليه وسلم): أين فلانة؟ فقالوا: ماتت بالأمس ودفنَّاها".
إنها امرأة فقيرة، لا مال ولا جمال، لا تُذْكَر، ولا ينتبه لها أحد، ثم هي يوم تغيب تلفت نظر النبي (صلى الله عليه وسلم)، لأنه لا يهتم لكبار القوم فحسب.
وهنا ينبغي أن ننتبه، فأنت إذا كنت –مثلا- مدير شركة، أو وزير، أو موظف كبير .. إلخ، هؤلاء الذين يُقدَّر وقتهم بالقيمة والمال، ثم جاءك من يقول لك: أريد في موضوع مهم للغاية، حالة عزاء ضرورية! فتسأله: من؟ فيقول: من يكنس الشارع، أو قال: ذلك الشحاذ المتسول على أول الطريق، فالمتوقع أن ترد مستنكرا: يا رجل؟! أأترك عملي لهذا؟!
وقد كانت المرأة هكذا، كانت ﻻ أحد لها، وقد ماتت ودفنت، أي أنه قد انتهى الأمر.
وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب ويقوم يقول: فهلّا آذنتموني؟ دلوني على قبرها.
ومشى النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى قبرها في أطراف المدينة، فصلى على قبرها ودعا لها، وظل واقفا عنده وقتا لا يقفه عند قبر آخر حتى ينصرف.
هذا هو النبي المكلف بمجاهدة الكفار والمنافقين، والحكم بما أنزل الله، والبلاغ برسالة الله.. إذا به يقف على قبر امرأة سوداء، ضعيفة، سفعاء الخدين، تكنس، لا يُؤبه لها وﻻ يُلتفت إليها، وماتت ودُفِنَتْ وانتهت المناسبة!! فهكذا كان الخلق عنده (صلى الله عليه وسلم).
من المؤسف أن أحدنا إذا كان الميت بسيط الحال لم يذهب، أو لم يذهب بنفسه وأرسل ولده بدلا منه، أو اكتفى ببرقية، فلماذا يا أخي؟ لماذا وهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو أرفع الناس قد علّمنا وهدانا وأعطانا هذا النموذج وهذه القدوة.
إنها الرحمة التي فُطر عليها (صلى الله عليه وسلم) وأودعت قلبه، وهي أمر لا شرط عليه، فليس لأحد أن يقول: سأرحم الناس حين أصير غنيا، بل قال الله تعالى في الحديث القُدْسي: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يكن مصرًّا على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم الأرملة والمسكين وابن السبيل، ورحم المصاب".
ومن المنكر في أيامنا هذه ألا يقف المرء لمصاب صدمته سيارة –مثلا- فيسعفه أو يحمله إلى المستشفى لخشيته من أن يتورط في أمره، هذا غياب للرحمة، ومن ﻻ يَرحم ﻻ يُرحم ، إنما يرحم الله من عباده الرحماء . بل احمله إلى المستشفى واعتن لحاله رحمة منك، ثم لتنظر في شأن المشكلة –إن كان ثمة مشكلة- أما أن تبيع اﻵخرة –التي ثمنها هذه الرحمة- لتشتري سلامة ليلة فهذا ما لا يُقبل؟! ثم –وعلى أسوأ الفروض- أن قد أصابك في هذا بلاء، فما أيسره إذا كانت الجنة في المقابل.
انتبهوا، واجعلوا رقابة الله علينا أعظم من رقابة أي شيء، فإن أراد الله منك أن ترحم المصاب فلترحم المصاب، وهكذا كانت رحمة النبي (صلى الله عليه وسلم).
تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----5----
‬في الهجرة كان تخطيط النبي يدل على رجل كفء يفهم الوضع جيدا، يفهم جهات الشمال والجنوب، ويسير إلى الجنوب بينما هو يهدف إلى الشمال بغرض تضليل من سيتعقبه، ويأتي بمن ينقل الأخبار، ومن يُعفِّي على آثار الأقدام، ومن يأتيه بالطعام، وحين لم يجد من المسلمين دليلا يدله على الطريق اختار واحدا من المشركين ولكنه يعرف صفته وأنه أمين في عمله وإذا أخذ أجره لم يُفش السرّ.
وحتى في ردِّ الأمانات لم يكن الأمر –كما يظن الكثير- أنه فعل ذلك لمجرد أنه أمين، فلو كان الأمر مجرد الأمانة لردَّها إلى أصحابها قبل الهجرة بأيام، ولكن لو أنه فعل ذلك لعرف الناس أنه يرد الأمانات مما يشير إلى أنه بصدد عمل ضخم سوف يقدم عليه.
لقد رتب (صلى الله عليه وسلم) أمورا كثيرة: الطريق والراحلة والأموال ومن يسبقه ومن يلحقه.
لم يكن الأمر مجرد حضور الصلوات والدروس والمساجد، لا.. بل كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعرف أصحابه حق المعرفة، فيقول: فلان أقضاكم، فلان اقرؤكم للقرآن، فلان أعلمكم بالفرائض، فلان سيف الله المسلول، فلان أسد الله... وهكذا، حتى في الآذان قال للرجل: انطلق به إلى بلال فإنه أندى منك صوتا ! إننا نعرف الآن أن بلال بن رباح صاحب صوت حسن لأنه صار المؤذن، لكنه قبل أن يكون مؤذنا، من كان ينتبه إلى جمال صوته؟!
من العجيب أن النبي أحاط بأصوات أصحابه حتى انتبه إلى هذا العبد الحبشي الذي كانت كل قصته أنه أسلم وعُذِّب –مع غيره ممن عذبوا- ثم أعتقه أبو بكر ودخل في زمرة المسلمين ضمن غيره ممن دخلوا. ثم يأتي من رأى في منامه الآذان فيحكي ذلك لرسول الله فيكون الرد: انطلق به إلى بلال فإنه أندى منك صوتًا. أقسم أني كنت في منتهى الحيرة والعجب لهذه الإحاطة غير العادية بقدرات الصحابة، وبهذا ارتفع رجل من كونه عبدا حبشيا ربما لا يرى في نفسه أي إضافة للأمة فيكون مؤذنا للأمة، تأتي إلى المسجد لأذانه، لأنه أندى الناس صوتا!!
انظر في مجلس العلم، هل من داعية الآن، عنده هذه الإحاطة بأصوات من يجلسون إليه ويستمعون له؟ ولا أنا! لا أعرف من بين عشرة من يكون منهم أجملهم صوتا!
وهو لعلمه (صلى الله عليه وسلم) بقدرات أصحابه يصرفهم إلى الأمور التي يحسنونها، فهذا يتعلم الفرائض (المواريث)، وهذا يتعلم العلم، وهذا يتعلم قراءة القرآن، وهذا يروي الحديث، وهذا يختص بالجهاد، وينظر إلى الغلام في سن الثانية أو الثالثة عشر فيقول: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، ويبعث الداعية ليعلم الناس، ثم يبعث القاضي ليقضي بينهم، وهكذا قَسَّم النبي قدرات الأمة كلها.
وحين ازداد عدد المسلمين ودخل الناس في دين الله أفواجا، كان الناس الذين أسلموا حديثا يتزاحمون عند رسول الله، ويبكرون في حضور الصلاة والمجالس حتى يرقبون حركة رسول الله وينظرون في أحواله: كيف يتكلم؟ كيف يسكن؟ كيف يتحرك؟ كيف يقول؟ كيف يصلي؟ كيف يستسلم؟ كيف يغضب؟.. وهكذا. وهذا التزاحم أمر طبيعي، فلو بعث النبي بيننا اليوم لذهبنا إليه في أي بلد ينزلها لنراه وننظر إليه ونتعلم منه.
لكن هنا حدثت أزمة، لقد صار السابقون إلى الإسلام يضطرون إلى الصلاة خلف الصفوف الأولى لتزاحم الناس عليه، وكذلك في مجالس العلم والوعظ، وهذا سيتسبب في نقصان العلم: فأولئك الذين رأوا السنين الأولى من حياته لم يعودوا يرون أحواله في السنين الأخيرة لتزاحم الناس، وهؤلاء الذين تزاحموا يرون النبي وسيرته وأحواله في السنين الأخيرة ولم يكونوا قد رأوا السنين الأولى، فمن هنا لن يكتمل العلم لأحد، وسينقص نقل السنة وفهم أحوال النبي والصورة العامة له في أحواله كلها.
فإذا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) -ومن أجل أن تنجح عملية تعليم الدين لأجيال المسلمين- يقول: "ليليني منكم المهاجرون والأنصار"، أي ليكن الأقرب مني هم المهاجرون والأنصار، فتُخلى لهم الصفوف الأولى لأنهم الذين شاهدوا الدين والعلم من أول الأمر فينقلونه كاملا.
ولهذا فإن علماء الأصول يجعلون من أدلة التشريع: قول الصحابي، لأنه الذي شاهد النبي وعرف أحواله، ولهذا أيضا تجد من أئمة الفقه من يأخذ بعمل أهل المدينة لأنهم الذين لازموا النبي مدة طويلة –ليست ساعات ولا أياما ولا شهورا- فانتشار أمر ما بينهم يدل على أنها سنة أقرَّ بها النبي (صلى الله عليه وسلم).
هذا هو النبي نفسه الذي كانت تأخذه امرأة ضعيفة العقل فتنطلق معه وتفضي إليه بأمر من أمورها، ويسلم على الصبيان ويداعب الضعفاء ويلين مع الخدم والعبيد.
فالذي لا يعرف عنه سوى هذه الصورة سيتصور أنه إذا أقبل عليه أحد ليصلي في الصف الأول فلا بد أنه سيرحب به ويثني على عمله ويحثه على لزوم الصف الأول.
بينما واقع الحال غير هذا، لأن الكفاءة الإدارية تلزم بأن يبعد هؤلاء الناس ويأتي بالسابقين من المهاجرين والأنصار ليكونوا أقرب إليه. وهكذا لم تنقص كفاءته الإدارية من حب الناس له ولا من حبه وقربه للناس.
تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----6----
كان النبي (صلى الله عليه وسلم) رئيس دولة يعرف جيدا ويزن جيدا الشخصية التي أمامه، فنحن الآن نرى تغير رئيس الوزراء الإسرائيلي –مثلا- فنجد أن سياسة هذا تختلف عن هذا رغم اتحادهما في اليهودية وفي الحرص على مصالح دولتهم. لقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يدرك هذه الفوارق ويزن الشخصيات؛ ففي صلح الحديبية جاءه أكثر من رسول من عند قريش، أولهم: سهيل بن عمرو، فما إن رآه النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى تبسم وقال: إنما أرادت قريش الصلح إذ أرسلت هذا ، وبناء على هذا يكون التفاوض معه.
وبعد سنتين فحسب من هذا الموقف أرسلت قريش أبا سفيان في موقف آخر، فكان النبي على علم بأن أبا سفيان ليس كسهيل بن عمرو، وأنه يحتاج لطريقة مختلفة فعهد إلى واحد من الصحابة أن يقف به في مكان بعينه، ثم أمر كتائب الجيش أن تتجهز وتستعد وتمرّ من المكان الذي يراها منه أبو سفيان. فيرى أبو سفيان الكتيبة فيسأل متعجبا من قوتهم وكثرتهم:
من هؤلاء؟
فيقال له: هؤلاء بنو فلان،
ثم التي بعدها فيسأل: ومن هؤلاء؟
فيقال له: هؤلاء بنو فلان.
وهكذا تمر به الكتائب فيزداد رهبة وهيبة، حتى تمر به آخر الكتائب وهي أكبرها وأقواها فيقول: من هؤلاء؟ فيقال له: هذه كتيبة المهاجرين والأنصار. فينهزم أبو سفيان معنويا ويقول للعباس بن عبد المطلب: لقد صار ملك ابن أخيك ملكا عظيما، فيقول: ليس بملك يا أبا سفيان، وإنما هي نبوة . وبعد هذا دخل أبو سفيان على النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد أن صار في حال أخرى غير الحال التي جاء بها. ثم حين يدخل النبي (صلى الله عليه وسلم) مكة بعدئذ يقول: ومن دخل دار ابي سفيان فهو آمن .
فهكذا يكون الفارق بين التفاوض مع أبي سفيان أو التفاوض مع سهيل بن عمرو، فأبو سفيان هو القائد العسكري لجيوش قريش في حروبها ضد المسلمين، فله عند نفسه وعند قومه مكان ومكانة، فأوقعه النبي (ص) بين الخوف والرعب في موقف القتال، وبين الرجاء والفخر في موقف النصر. وبهذا احتوى شخصية أبي سفيان ومَلَكَها.
وهذا يجعلنا نسأل الآن الدعاة والشباب المسلمين: كم واحدا يعرف شخصية قائد الشرطة في حيه، أو المحافظ، أو ناظر المدرسة، أو عميد الكلية، أو عمدة القرية.. كم واحدا يفهم الشخصيات النافذة في بلده ومكانه إلى الدرجة التي يستطيع فيها أن يتعامل معه وينجح في ذلك؟!
هذا هو الدين، وليس الفهم السطحي البسيط الذي يفهمه المسكين الذي يظن نفسه داعية حين يذهب إلى أحدهم فيجبهه بالكلام ويقول: "أقيم عليه الحجة"، لقد رأيت مرة من يذهب إلى عمدة القرية ويقول له: "قل لا إله إلا الله لأنك تركت الإسلام"، فكان من الطبيعي أن يرد عليه الرجل بقوله: هل ستعلمني الإسلام؟!!" ويطرده ولا يقبل منه.
يجب علينا أن نحسن التأسي برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فلم يكن النبي شخصا عاديا، بل كان يفقه ما يفعل وما يقول.
ولم تكن هذه الكفاءة السياسية مع عدوه فقط، بل مع صحابته كذلك، لقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يدير مجتمع المدينة، وهو مجتمع معقد ومُرهق:
فهو منقسم بين الأوس والخزرج، وهما قبيلتان كانت بينهما عداوة ضاربة في التاريخ وقتلى، وكان الرجل من الأوس يعرف الرجل من الخزرج ويتذكر أن أبا هذا قتل عمه، وخال هذا قتل أباه، وأخا هذا ضرب أمه.. وهكذا! أي أن الرجل كان حين يرى الآخر يراه متلبسا بدماء أهله التي سالت على يد هذا ويد قبيلته.
ثم هم مع ذلك يعيش بينهم اليهود، وهؤلاء اليهود هم الذين كانوا يؤججون العداوة والبغضا بينهم، إذ أن مصلحة اليهود في بقاء العداوة مشتعلة بين الأوس والخزرج.
ثم يُضاف إلى هذه التركيبة القبلية الصعبة: المهاجرون، والمهاجرون أيضا كانوا منقسمين إلى قبائل، وقد كان بين هذه القبائل تنافس شديد، يدل على هذا قول أبي جهل: كنا وبنو عبد مناف كفرسي رهان: أطعموا فأطعمنا وسقوا فسقينا حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فأنى لنا هذا؟ ، فهذه هي القبائل التي جاء منها المهاجرون كان بينها حالة من التنافس الشديد. ثم ينزل الأمر الإلهي ليجعل من هؤلاء جسدا واحدا {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92]، فكيف تمكن النبي أن يجعل كل هذا بين يديه كرئيس للدولة؟!
لقد بدا هذا أول مرة في غزوة بدر، حين أفلت العير وصارت المسألة حربا، فقال لهم: أشيروا علي أيها الناس، فيقوم أبو بكر ويتكلم، فيقول النبي (صلى الله عليه وسلم): أشيروا علي أيها الناس، فيقوم عمر بن الخطاب ويتكلم، فيقول مرة أخرى: أشيروا علي أيها الناس. وذلك حتى يتكلم الأنصار، فهم جزء من هذا الجسد الواحد، وجزء من المشورة، وجزء من القرار.


تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----7----


كان الناس من أهل الكتاب وأصحاب العلم ينتظرون رسولا سيبعث اسمه أحمد أو محمد، يعرفون أنه رسول الله، قبل أن يعرف النبي نفسه أنه سيكون رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ونحن نقول هذا لكي نوقن أن دين الله واحد، وأن هؤلاء الذين يكفرون بالاسلام، سواء يهود أو نصارى، إنما ينكرون قواعد موجودة في دينهم هم، وأنهم لما كفروا بمحمد (صلى الله عليه وسلم) إنما كفروا بدينهم هم. وهم لما حرفوا كتبهم ولما قالوا بأن القرآن ليس بكتاب لله، وأن محمدا ليس برسول لله، لما فعلوا ذلك إنما كفروا بدينهم.
ونحن عندما نتحدث نحن هنا عن السيرة لا نتحدث عن أمر يخصنا وحدنا، بل نتحدث عن أمر تحدثت عنه الأمم السابقة بمثل ما نتحدث عنه الآن.
إن الأمر كما قال الله تعالى {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 2، 3]، فقبل أن تقع الموقعة عرف المسلمون ما الذي سيحدث، فلما وقعت قالوا: نعم، هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق اهلو ورسوله. أو كقول الله تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا .... } [الإسراء: 4، 5] {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ...} [الإسراء: 7]، فإذا حدثت هذه الأمور نعلم أننا كنا نعرف بها من قبل أن تقع.
وكذلك السيرة، أخبر الله تعالى بشأنها أصحاب الكتب السابقة، فلما وقعت كانوا يعرفونها، ولذلك يقول القرآن الكريم عن معرفتهم للنبي (صلى الله عليه وسلم) {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]
لقد كان أهل الكتاب يستفتحون على الذين كفروا، فمن ذلك أن واحدا من أهل يثرب قتل رجلا تابعا لملك اليمن، فحرك هذا الملك جيشه وأقبل لقتال اليثربيين، فبينما هو كذلك إذ خرج عليه عالمان من أحبار اليهود -الذين كانوا يعيشون في المدينة- وقالا له: أيها الملك، لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذاك؟ فقالا: هي (هذه المدينة) مُهَاجَر نبيٍّ يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره.
فأنت تفاجأ هنا أنهم كانوا يتحدثون بتحديد غريب عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ فيقولون أن رسول الله سيخرج في هذا الزمان، فنأخذ من هذا أنه رسول اهلآ وأنه قد تحدد زمان خروجه، ثم يقولون بأن قومه سيضطهدونه وسيهاجر، فها هنا تصريح بالهجرة، ثم تكون هذه الهجرة من مكة "من هذا الحرم"، ثم حددوا قبيلته بأنها "قريش"، وحددوا مكان الهجرة "يثرب"، وعرفوا أنها ليست هجرة مؤقتة لعامين أو ثلاثة بل هي مستقر "تكون داره" وسيظل فيها طوال حياته حتى يموت، فهي "قراره" أي قبره.
فهذه العبارة على بساطتها جاءت بالسيرة من أولها إلى آخرها، فقد ذكرت: البعثة والاضطهاد والهجرة، وأهل النبي ونسبه، وموطنه ومهجره، ومدة إقامته في يثرب وأين سيموت ويدفن. فتلك هي السيرة!
فكانت صورة النبي واضحة في أذهانهم، كانوا يدركون الأمر كله، ويعرفون أنهم ينتظرون هذا النبي. بل تبلغ درجة معرفتهم به (صلى الله عليه وسلم) أنهم {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146].

تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----8----
إن بعض المسلمين يتوهم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان درويشا، إذا ظلمه أحد عفا عنه، إذا أغضبه أحد سامحه، وإذا رأى فقيرا أو جائعا أعطاه وأطعمه، يهش ويبش لأصحابه حتى إذا صافح أحدا منهم لم ينزع يده حتى ينزع.. وهكذا!
لكن إذا رجعنا إلى الحق، واستعرضنا وقائع السيرة سنجد أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان رجلا فذا متفردا لا مثيل له، كان عقلية لو وضعت عباقرة العالم سواء فى التاريخ القديم أو الحديث لرجحت بهم، وأقصد العباقرة في أي مجال: السياسى، العسكرى، الإدراى، الإصلاحى.. إلخ.
كان شخصية ذكية، متفردة، كان عالما مثقفا مدركا يفهم ما حوله، ويفهم المرامى البعيدة، والأسرار، كان ذا ذاكرة قوية، نشيطا وافر المجهود، قويا، محببا إلى الناس، كان صورة متميزة عمن حوله.
وكان في غاية النظام في كل كبيرة وصغيرة، يعرف خطوات طريقه، فما أوحاه الله إليه أدركه، وما تركه الله له من خطوات وتخطيط استعد له وعمل حسابه، ماذا سيفعل اليوم؟ وماذا سيفعل غدا؟ وماذا بعد غد؟ وما الذي يؤجل؟ وما الخطوات التي تتخذ قبل هذه الخطوة، وكم يستلزم ذلك من الوقت.. وهكذا! كان شخصية بمعنى الكلمة..
وهو –مع هذا الجد والنظام- رقيق العاطفة، لا يؤدي أعمال البر والرحمة لمجرد أنه منظم يوزع الحقوق كالبر بالزوجات والإحسان إلى الأطفال والرفق بالعبيد والفقراء، بل إنه يهتز من الرقة لمواقف إنسانية طبيعية قد يمر بها كل إنسان؛
فلقد بكى على قبر أمه وهو في الستين من عمره، بعد أربع وخمسين سنة من وفاتها، وينهمر الدمع من عينيه، فيقول له صاحبه: ما هذا يا رسول الله؟ فيقول: "إنها رحمة يودعها الله قلب من يشاء من عباده، والراحمون يرحمهم الرحمن"، يبكي على أمه وقد مرت عليه عشرون سنة من النبوة لقي فيها الأهوال!
ويفرح بولده الطفل "إبراهيم" فرحة والد بولده، ويحمله ويهتم له، ثم لما توفي هذا الطفل بكى عليه وقال "إنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون" ، وينتفض الولد انتفاضة الموت بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فترى فيه الوالد والأب الكريم.
فلم يكن الأمر قرارا عقليا أو تنفيذا لتكليف بحسن الخلق، بل كان عاطفة تلقائية وفطرة مودعة في قلب النبي (صلى الله عليه وسلم).
وفي المقابل فإنك حين تنظر إليه وهو يبكي عند موت ولده إبراهيم تراه وقد جاء أسامة بن زيد –الذي هو حفيده في الميزان الجاهلي، لأنه ابن ربيبه زيد بن حارثة الذي اتخذه النبي ولدا له قبل أن يبطل الله التبني- ورأى النبي على هذه الصورة من الحزن، فصرخ أسامة، فإذا به (صلى الله عليه وسلم) يوقف بكاء نفسه وينظر إلى أسامة ويقول: "يا أسامة البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان فلا تصرخ" .
أى قوة تلك التى جعلته وهو فى قمة انهمار العواطف فى نفسه يقف ليصحح عقيدة أو ليصحح حكما شرعيا لأسامة؟! ولا يشفع له أن الحالة حالة حزن ووفاة! بل يدفن ولده وهو يردد: "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون".
ولما كسفت الشمس في ذلك اليوم، وظنَّ الصحابة –من الحزن- أنها كسفت لموت ابن النبي وحزنه عليه، وقف النبي بين هذا الجمع وقال لهم: "أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان ولا تنخسفان لموت أحد".
ولك أن تعجب في هذه الواقعة كيف كان النبي يتوقف –وهو في ذروة العاطفة- ليمنع من الزيع ويقول: إنها لم تكسف لأجل ابني وإنما هذه من آيات الله.
ولهذا كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثالا للكمال البشري..
تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----9----
إنك تجد عند النصارى –الذين لا يؤمنون بمحمد- في دينهم، أن المسيح عليه السلام لما أُرْسِل، كان من ضمن رسالته {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]، وذلك أن اليهود لما عصوا االله وأوغلوا في العصيان عاقبهم الله تعالى بسبب ظلمهم فقال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [النساء: 160]، لقد عاقبهم الله بأن حرم عليهم بعض الطيبات.
وهذا مثلما يعاقب الوالد ابنه الصغير بمنع ما يعطيه إياه من المال لما يتكرر منه من الخطأ، رغم أن هذا المال الذي يعطيه إياه مهم جدا من الناحية التربوية، فإن الطفل إذا حرم منه تماما فقد يدفعه هذا إلى السرقة من أقرانه، فإعطاؤه هذا المال هو في الحقيقة معين له على التزام الصفات الصالحة.
ولهذا أيضا يجب أن يُعطى للطفل ما يشبع حاجته، ثم ما يشبع رغباته إلا قليلا لكي يتعلم الادخار، فإشباع حاجته ضرورة كي لا يضطر إلى التلبس بالسرقة أو نحو ذلك من الصفات السيئة، وإشباع رغبته وما يحبه يجب أن يكون بأقل من هذا ليتعود التدبير، فيكون لديه حد الكفاية والاحترام، ثم يُقَيَّد كل هذا بالتربية الصالحة ومعرفة الحلال والحرام ومراقبة الله، فيستقيم بهذا إن شاء اهلا.
وفي هذا الوضع يمكن أن يُحرم من هذا المال كعقوبة عارضة، ساعتها لن يتعلم السرقة وإنما سيتعلم ألا يكرر هذا الخطأ ليعود إليه ما مُنِع عنه، فيشعر بحلاوة الاستقامة.
لما أرسل الله نبيه موسى عليه السلام إلى اليهود، وكان قد وصل بهم العذاب حدًّا شنيعا: يُقَتَّل أبناؤهم ويُستحيى نساؤهم، وهذا أبشع ما يُرتكب في أمة، لأنه حين تُقتل الرجولة في أمة لا يبقى إلا انحراف المرأة، يبقى العوج، يبقى الجوع، يبقى الذل.
أما إذا وُجدت الرجولة فسيوجد الجهاد، ويوجد من يكتسب الرزق لينفق، وتوجد القوامة التي تحول دون انحراف المرأة. لقد حرم الإسلام سفر المرأة مع غير ذي محرم لأنها بغير محرم ضعيفة، قد تسمع كلمة فتميل إليها وربما لا تستجيب لها، لكن تكرار المحاولات مرة واثنتين وثلاثة ينشأ لها في النفس فسوقا، وهذا أمر طبيعي.
إن المرأة العفيفة إذا تكرر على مسامعها الكلمات الرقيقة، فإن الكلمة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة تصنع هوى وميلا قلبيا لا يُستطاع منعه.
فلذلك كان بنو إسرائيل –الذين يُقَتَّل أبناؤهم ويُستحيى نساؤهم- في بلاء عظيم، ثم لما نجاهم اهلَ فجعل لهم الماء أرضا ساروا عليها، ثم جعل الأرض ماء على فرعون فأغرقته ليكون عبرة لمن يعتبر، لكنهم لم يحمدوا الله بل عبدوا عجلا صنعوه، وظلموا ظلما متواليا، فقال الله تعالى {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
فلما جاء المسيح ابن مريم -وكان بنو إسرائيل قد تأدبوا وعاشوا فترات منها فترة تسمى العصر الذهبي لليهود، لأنهم عادوا إلى الله- جاء المسيح ليقول: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، فوضح من هذا أن موسى جاء مهيمنًا على ما قبله من الدين بشريعة جديدة، وأن المسيح لما جاء -أيها النصارى- جاء بما يهيمن على شريعة اليهود عندما أقرّ نفس العقيدة ولكنه أحل بعض الطيبات.
فما العجب إذا جاء محمد (صلى الله عليه وسلم) فقال الله تعالى في شأنه أنه يعيد الشريعة لأصله، فيحل جميع الطيبات {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، لأنه الدين الخاتم الذي يتزن به أمر الشريعة إلى يوم القيامة، فما من طيب إلا وهو حلال، وما من خبيث إلا وهو حرام، وهذا شرع الله الذي أرسل به محمد (صلى الله عليه وسلم).
تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----10----
إذا كان النبي ﷺ قد جاءت صفاته بدقة في الكتب السابقة، فما الذي جعل هؤلاء القوم يكذبون رسول الله ويكفرون به؟
ما الذي جعلهم يغيرون ويبدلون؟
إن أخوف ما أخاف منه، وما يجب أن نخاف منه جميعا، الحديث الذي يقول فيه الرسول ﷺ: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا:يَارَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟" أي: فمن غيرهم. والضب: هو الفأر الصغير، أي أن اتباعهم سيصل إلى درجة عالية.
لقد قيل هذا الكلام للصحابة؟ ففزعوا.
فلا بد أن نكون في منتهى الخوف، أن نضل الطريق، بحيث أنهم كما خربوا دينهم نخرب نحن ديننا.. أمر في منتهى الخطوة!
فكيف خرب هؤلاء دينهم الذي هو الإسلام ووصلوا به إلى هذا التردي؟!
إن الدافع قد يكون أنهم اتبعوا أهوائهم بغير علم، إنما أخطر من هذا أنهم أَتْبَعوا ذلك بأمور منها: كتمان العلم.
كتمان العلم، أن يسكت الذي عنده العلم!
هذا يؤتى به يوم القيامة، ليس شيطانا أخرس فحسب، وإنما يؤتى به يوم القيامة ويعذب، لأن الله لم يأمر الذين آمنوا أنهم إذا سُئلوا أجابوا، وإنما أخذ الميثاق بأمر آخر، أخذه ببيان العلم ابتداءً من غير أن يكون سؤال، قال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
إن الطغيان السياسي اليوم يعم البلاد، ليس من بلد اليوم تخلو من الطغيان السياسي، وقد أقاموا أجهزة المباحث والمخابرات، أجهزة ضخمة من أجل أن يُكتَم درجة معينة من درجات الحق، يسمح بالقول لكن إلى حد معين لا يصل إلى درجة الحق هذه. فيظل جزء من الدين مختفيا، فإذا قيلت وظهرت توصم بأنها "تطرف" و"إرهاب"، مع أنها من الإسلام، إذا فتحت القرآن وجدتها فيه.
وقد حدثت واقعة بين الرسول ﷺ وبعض أهل الكتاب، سألهم عن الحكم في قضية فقالوا له: الحكم كذا، فقال لهم: لا، بل الحكم الذي في التوراة هو نفسه الحكم الذي في القرآن، هاتوا التوراة واتلوها، فأتى صاحبهم فوضع يده على موضع من التوراة وظل يقرأ، فقال النبي له: ارفع يدك، فكان تحت يده الحكم المراد.
هذا المشهد المضحك، رجل يضع يده على شيء من الصفحة كي لا تظهر للناس، هو الحقيقة التي حدثت عبر قرون طويلة، أن يظل جزء من الدين مكتوما، أن يكون الحديث مسموحا به إلا في جزء بعينه، مع أنه من صلب الدين. فهذا من أخطر ما تتعرض له الأمة الإسلامية، ومن أخطر ما تعرض لها من قبلهم: الكتمان!
هذا الذي يكتم العلم فيريح نفسه في الدنيا، يأتي يوم القيامة فيعذب أشد العذاب، ذلك أن الله أنعم عليه بالعلم ليبينه للناس، لا ليكون سدًّا يحجب الناس عن نور الله!
إني لأعلم بعض الناس الذين يؤم دروسهم الآلاف، بدأ الأمر معهم بأن اتفق مع واحد فحسب أن يعلمه، ثم زاد الواحد إلى اثنين ثم إلى أربعة ومائة وألف وثلاثة آلاف، وأصبح لقاءا مشهودا ويُبنى ويُربَّى عليه. لأن ذو العلم مأمور بالبلاغ ولو لم يجد إلا واحدا فيجب أن يبلغ، لا بد أن يبلغ، ولا يسعنا أن نسكت.. لا يسعنا أن نكتم الحق.
بل إن رسول الله ﷺ قال: "لا يحقر أحدكم نفسه"، قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: "يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه. فيقول الله عز و جل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس. فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى" .
فيذهب العبد إلى نار جهنم، انظر كيف لم يصمد لله خمس أو ست سنوات، فيوضع في نار جهنم خمسين أو ستين سنة! والعياذ بالله.. ومن يصبر على نار جهنم؟!
إن أي أمة ترتضي أن تكتم من دين الله شيئا، سيحدث لها مثلما حدث مع اليهود والنصارى، صار دينهم غير الدين الذي نزل على نبيهم.
وقد يسأل سائل: إن الله يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، فلن يحدث تحريف.
وأنا لا أقول بأن القرآن سيحرف {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فالله هو حافظه، أما التوراة والإنجيل فقد عهد الله بحفظهما لأهل الكتاب فقال {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44] فكان الناس هم المستحفظين، فلن يضيع القرآن مثلما ضاعت التوراة والإنجيل.
أما نحن، فنحن المكلفون بحفظ "تطبيق هذا الدين"، حفظ "إقامة أحكامه".. لا أن يأتي أحد فيكتم أمر "الحكم بما أنزل الله" فيخفيها خوفا وحرصا، ولذلك يأتي ضباط الأجهزة الأمنية فيقولون: ما بال الدين الذي تتكلم فيه غير الدين الذي يتكلم فيه غيرك، لماذا لا تتحدث في الصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين وإطعام المسكين ... إلخ!
صحيح أن هذا كله في دين الله، وفي دين الله أيضا الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله، وإقامة الدولة الإسلامية.
أنا مكلف بالبيان، لا أضع ولا أرفع شيئا من كتاب الله، إن وظيفتي أن أتكلم في الإسلام كما هو الإسلام.
إنني إذا دخلت في الصلاة أقرأ في سورة البقرة {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} [البقرة: 1 - 3]، وفي سورة البقرة نفسها {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} [البقرة: 275]، فهل يسعني أن أقفز عليها؟!
بل يجب أن أقرأها، ومن رضي أن يكتم فإنه هو الذي يبدل الدين.
يجب أن أنتبه إلى أن الذين جاءهم وصف النبي بدقة في كتبهم ثم كذبوه إنما كان ذلك نتيجة الكتمان!
تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----11----


يوم القيامة يأتي الناس بين يدي الله يقفون، فيهم الضعفاء وفيهم الأقوياء، يقول الضعيف: يا رب لم أكن أستطيع أقف أمام هؤلاء، لقد كانوا السادة ونحن الضعفاء، فكتمنا.
اقرأوا قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 97]، فلم يكن هذا حجة لهم، بل قيل: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، ثم ذكرت الآية أن مآلهم إلى جهنم {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98] فالشيخ الكبير أو النساء أو الأطفال الصغار هم المعذورون.
إن القرآن يقول أنه لا يخضع ضعيف لقوي في معصية ما إلا بإجرام في نفس الضعيف، إجرام يستحق العذاب، كما يقول الله تبارك وتعالى في سورة سبأ {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31] فانظر كيف سماهم القرآن جميعا ظالمين؛ القوي ظالم والضعيف ظالم، لأن القوي لا يتفرعن إلا لأن الضعيف لم يحافظ على حقوق الله.
يقول الضعفاء للأقوياء: لولا أنتم لكنا مؤمنين، فإذا بالذين استكبروا يقولون {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ: 32]
لماذا لم يُقْبَل عذر الضعف من الضعيف؟
لأنه لم يخضع للقوي إلا لما فيه من الإجرام، إجرام اختيار الدنيا على الآخرة، فإن الآخرة في يد الله لكن الدنيا تبدو في يد هذا القوي، فاختار الدنيا التي في يد هذا القوي على الآخرة.. فهذا هو الإجرام.
إن كتمان العلم يأتي من هنا، وقد عرف الضعفاء أن نفوسهم أحبت الدنيا، وحب الدنيا هذا هو الذي أنزلهم هذا المنزل، فردوا على الأقوياء بأنهم من زرعوا فيهم هذا، قالوا: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 33].
فاحذر من كتمان العلم، احذر أن تكتم علما في أبسط شيء، في رجل ضرب رجلا، أو رجل أخذ قرشا من رجل وأنت شاهد، ثم لم تشهد بالحق، إياك أن تكتم الشهادة في قضية ولو بسيطة، قال تعالى {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].. فكيف بكتمان الدين؟!
أنت مأمور أن تبين للناس وألا تكتم، فإياك أن تعتاد كتمان الحق وأنت تعرفه، وإلا فهذا هو بيع الدين بثمن بخس، بثمن بخس جدا.. قل الحق ولو بقدر ما تستطيع.
إن بلال بن رباح وهو يُعَذَّب ويُضْرب والصخرة على صدره، كان يقول: أحدٌ أحدٌ.. ترى لماذا؟ لأنه يرى الحق والإسلام والدين وليدا، وليدا صغيرا ينمو، وعاين التعذيب الشديد الذي يحاول قتل الوليد الصغير بهذه القوة والشراسة، فخاف.. خاف من هلاك هذا الوليد الصغير، فعزم أن يبقى هذا الحق الوليد ولو بأن يرفع بنانه ويقول: أحدٌ أحد.. كي يبقى صمود الوليد، كيف يفشل التعذيب في أن يقهر الدين، وهكذا كان من معه مثل عمار وخباب وسمية وياسر.
يجب علينا أن نقف عند الدين، فالحق حق.
إن التحريف والتبديل في غاية الخطورة، أن ترفع شيئا وتضع شيئا لم يقله الله، بل قال غيره، فترفع أنت ما وضعه الله وتضع شيئا من عندك، هذا وضع مؤسف وخطير.


تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----12----
إن ثمة من يهاجم السنة النبوية، يقول: لا أدي ما هو الصحيح وما هو الخاطئ، هذا صحيح وهذا ضعيف، فلنترك السنة كلها.
إن مثل هذا كالذي لما سمع رجلا يقول: هذا ابني وهذا ليس ابنا لي، قال له: دعك من هؤلاء جميعا، فليسوا بأبنائك!!
إن الاعتراف ببنوة أحدهم ونفي بنوة الآخر، يثبت أن الرجل يعرف أبناءه وأنهم معروفون معدودون، فالحديث إذا قيل: حديث صحيح وحديث ضعيف وحديث حسن وحديث كذا وحديث كذا، فهذا معناه أن الأحاديث معروفة.
ولذلك لما أُمر بقتل زنديق قال لهم: "أين أنتم من ألف حديث وضعتها فيكم أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام، ما قال النبي منها حرفا، فقال له هارون الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ؟ فإنهما ينخلانها نخلاً فيخرجانها حرفاً حرفاً" . فإن العلماء وضعوا علم الرجال فيعرفون من روى عن من ومن سمع من.
هل تظن أن الحديث الذي تقرؤه أتى هكذا؟ لا، إنما الحديث الذي يقال معروف من سمعه من النبي، ومن سمعه منه، ومن سمعه من الثاني، وهكذا سلسلة السماع حتى وصلت للكتاب الذي سطرت فيه كالبخاري وغيره، ثم طبعت وصارت مشتهرة بين الناس.. هذه السلسلة من السند معروف أشخاصها، أسماؤهم وأحوالهم ورحلات سفرهم وما درسوه، وهل مرض قبل موته أم لا، ومنهم –مثلا- من عاش ثمانين سنة، فنحن نتتبع حياته ولو وجدناه ظل سبعين عاما صالحا وتقيا ونقيا وورعا وإماما في العلم، ثم غاب عنا خبره وجهلنا تاريخه في العشر سنين الأخيرة من عمره.. هذا الرجل، لو كان موجودا في سلسلة السند لا تُقبل روايته إلا حين نعرف هل روى هذا الحديث في السبعين عاما الأولى، وما لم نعرف هذا فلا تؤخذ منه الرواية.
إن علماء الحديث يعرفون رواة السند أكثر مما يعرف الداعية من يحضرون دروسه، أكثر مما أعرف أنا من يحضرون أمامي جميعا.
هذا التشكيك في الدين يُقصد به اختلال الدين، فانتبهوا يا إخوة إلى تفاديه.



تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----13----


إن دين الله واحد دائما، ليس ثمة أديان متعددة، وإلا لم يكن الأنبياء ليقولوا شيئا واحدا، إن كل الأنبياء قالوا نفس العقيدة، نفس الرسالة.. يقول تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}، ولا ينبغي أن نتعجب عندما يقال في عرض البشارات "مسلم راهب يعبد الله على دين المسيح"، لأن الإسلام هو دين الأنبياء جميعا، والرهبانية ابتُدِعَت لعبادة الله ابتغاء وجه اهلك، قال تعالى: {ورَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}.
إن نوحًا عليه السلام كان مسلما، دينه الإسلام، ومن قبل نوح جاء في الآثار الصحيحة أنه "كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون كلها على الإسلام" ، أي: ألف سنة كلها على
الإسلام.
وبعد ذلك أتي سيدنا نوح، الذي يقول الله تعالى عنه {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71، 72].
وإبراهيم عليه السلام –النبي الثاني من أولي العزم من الرسل- قال الله تعالى عنه {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]
ويذكر الله تبارك وتعالى إسلامه في سورة البقرة، فيقول تبارك وتعالى فيها: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 130، 131] وليس هو فحسب، بل {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيه} [البقرة: 132] وهم إسحاق ويعقوب، وكذلك وصى بها يعقوب بنيه، وهم سيدنا يوسف عليه السلام والأسباط {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].
فإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف والأسباط الأحد عشر، كل هؤلاء كان دينهم الإسلام! بل يقول الله تبارك وتعالى في سورة الحج عن إبراهيم عليه السلام {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78].
واسمع قول الله تعالى {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]. فالوصية التي توارثها الأنبياء هي الإسلام، دين واحد، ليس لإبراهيم دين غير الدين الذي جاء به موسى غير الدين الذي جاء به عيسى، لا.. بل هو دين واحد اسمه الإسلام منذ خلق الله الأرض إلى هذه الساعة.
وإنك لتجد ذكرا خاصا لسيدنا إسماعيل عليه السلام في القرآن الكريم في سورة البقرة، حيث يقول الله تعالى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127، 128].
ونجد لوطا عليه السلام –وقد عاش في زمن سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل- مسلما، وذلك في قصة الملائكة الذين حضروا إلى سيدنا إبراهيم على هيئة ضيوف، فقدم لهم طعاما {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70]، وقوم لوط هم الذين أحل الله لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، فتركوا النساء وصاروا يأتون الذكران من العالمين، فأرسل الله إليهم العذاب على يد الملائكة، فقال لهم سيدنا إبراهيم –كما في سورة الذاريات- {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [الذاريات: 31 - 36]. فالبيت الوحيد الذي نجا هو البيت الذين على دين لوط عليه السلام، وهم المسلمون.. فالإسلام كان أيضا دين لوط عليه السلام الذي كان يدعو إليه قومه.
واسمع قول الله تعالى عن سيدنا يوسف عليه السلام، الذي جُمِعَت قصته في سورة واحدة، ولم تأت في غيرها إلا كإشارات، قال عنه بعد أن اكتمل لسيدنا يوسف أمره على عرش مصر، وجاءه أبواه ورفعهما على العرش، وخرَّ له إخوانه سجدا، واستقر الأمر له، كان آخر ما قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].
واسمع قول موسى عليه السلام لقومه {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]. فالدين الذي أنزله الله على موسى اسمه الإسلام، ولذلك قال الرسول ﷺ "لو كان أخي موسى حيّا ما وسعه إلا أن يتبعني".
ويقول الله تعالى عن موسى عليه السلام {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]، إذن يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون الذين أسلموا والأحبار الذين أسلموا.
وإنك لتعجب من قصة سليمان عليه السلام، وذلك أن بعض الأنبياء يسرد الله تبارك وتعالى قصة كونه مسلما ويدعو قومه إلى الإسلام في آية واحدة، بينما الأنبياء الذين فَصَّل اهلْ في إسلامهم هم الأنبياء الذين يتخذهم أعداؤنا اليوم عنوانا وشعارا؛ فهؤلاء اليهود يقولون نحن أتباع سليمان، ونريد بناء هيكل سليمان، والنجمة التي في رايتنا نجمة داود، ولهذا يكرر القرآن أن دين سليمان هو الإسلام ليس مرة واحدة بل أكثر من مرة:
ففي سورة النمل يقول الله تعالى حكاية عن ملكة سبأ {قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 - 31].
فسليمان –إذن- يدعو إلى دين اسمه الإسلام.
وفي ذات السورة، لما عرف أن ملكة سبأ استجابت لدعوته، قال {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38]، فهو –إذن- يشهد على من استجاب لدعوته أنه بذلك قد دخل الإسلام.
وفي ذات السورة لما دخلت الملكة إليه في عرشه ووجدت عرشها قالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} فيقول: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}.
ولما أسلمت الملكة قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].
وإذن، فالدين الذي كان يدعوا إليه سليمان، والذي استجابت له الملكة وكانت عليه هذه الأمم من الطير والجن والإنس والحيوان، كان هو الإسلام.. ومن هنا فإذا قالوا: نهدم المسجد الأقصى لنبني هيكل سليمان فإنما يقولونها بظلم، فإن سليمان عليه السلام صلى خلف رسول الله في المسجد الأقصى؛ رسول الله إمام وسليمان يأتم به. فلقد أُخِذ عليه العهد كما قال اهلل تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] فمحمد هو الرسول، وسليمان ضمن النبيين الذين أُخِذ عليهم هذا العهد. ولذا فإنه –عليه السلام- برئ من هذا الذي يقال.
إذن.. كل هؤلاء كانوا على الإسلام.
والمسألة مشهورة، كي لا يظن أحد أن عمر الإسلام 1400 عام فحسب، بل الإسلام دين كل الأنبياء. يدل على هذا أيضا حديث صحيح يقول فيه نبي الله ﷺ "الأنبياء أولاد علات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد"، يعني.. بنوا العلات هم الإخوة الذين أبوهم واحد وأمهاتهم متفرقات.
ولذلك فنحن حين يقول المتحنفون عن الرسول شيئا، أو يقول اليهود، أو يقول النصارى.. فنحن نقول لهم: إن الدين الذي كنتم عليه هو الإسلام، ومحمد ﷺ حينما أتى ليدعوكم إلى دين إنما كان يدعوكم لدينكم، لا أنه كان يأمر بالخروج من الدين للدخول في دين آخر، وإنما هو الإسلام الذي أوحاه الله تبارك وتعالى إلى كل أحد من الأنبياء والمرسلين.


تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----14----


لما بنى إبرهة هذا البناء في الحبشة رفض كل الناس أن يذهبوا إليه، لأن المرء لا يحج ابتغاء القصر والفخامة، بل إن بيت الإنسان العادي أفخم من الكعبة حينذاك، فدهش أبرهة وظن أن الناس مجانين لأنهم لم يحجوا إلى قصره وظلوا يحجون إلى هذه الكعبة، فأقسم ليهدمنها.
وتحرك بأفياله الناس ان يحجوا وظلوا يحجون إلى الكعبة، فأبرهة قال الناس المجانين رايحة تحج للكعبة وتتركوا كعبتي والله لاهدمها. و تحرك بأفياله.
أراد الله أن يفضح العقائد الباطلة الموجودة لدى العرب، لأن هذا المكان سيولد فيه في نفس السنة نبي الله أحمد (صلى الله عليه وسلم)، فكانت النتيجة أن دخل الأحباش بأفيالهم ووصلوا إلى حدود الكعبة.
إن العرب لهم جعجعة وفخر، يفخرون لا بحماية أبنائهم فحسب بل بحماية جيرانهم، ويقولون: من قتل منا رجلا قتلنا من قومه عشرة، لهم أنفة معروفة، حياة أولئك العرب مبنية على الغرور، فوصل الأمر بهم إلى أن رأوا أنه لا طاقة لهم بهذا الجيش، وقرروا التنازل رسميا عن غرورهم، وقرروا ترك البلد: مكة بما حملت وبما فيها من البيوت وبما فيها من الأموال، تركوها وهجروها إلى الجبال!
أين غرور العرب؟ أين أنفة العرب؟ أين كبرياء العرب؟ أين عزة العرب؟.. هربت كلها أمام هذا الجيش الذي لا طاقة لهم به ولا قبل.
خرجوا وتركوا بلدهم فريسة سهلة بدون مدافع لأعدائهم.
ولا يدري المرء ماذا كانوا ينوون أن يفعلوا بعدما يدخل إبرهة إلى مكة ويستولي عليها؟ هل سيرجعون خاضعين في ظل حكمه، أم سيظلون في الجبال؟ أم سيفرون إلى أماكن أخرى؟
الخلاصة أنهم أقروا على نفسهم بالضياع الكامل. وأراد الله أن يقروا هم على أنفسهم بالمزيد، فحدث أن جمع إبرهة الإبل في مكة وضمَّها إليه بما فيها إبل عبد المطلب الذي كبير القوم، وإذا بعبد المطلب الذي يحمي الكعبة ويحمي ماله، يذهب إلى أبرهة فيستقبله أفضل استقبال لما يعرف من مكانته، ثم يفاجأ بالرجل بدلا من أن يتحدث في شأن المقدسات العليا لبلده يحدثه عن الإبل، إبله التي أخذها رجال أبرهة، فسقط الرجل من عين أبرهة، الذي أتى ليهدم الكعبة ففوجئ بكبير القوم يترك أمر الكعبة ويحدثه في شأن إبله.
وهنا يحدث ما أراد الله من هزة للعقائد المطموسة في نفوس العرب، كي يعرفوا أن الأصنام التي تركوها لا غناء فيها، ويظلون يتحدثون في هذه الواقعة سنين طويلة.
(كما نتحدث نحن الآن في حرب أكتوبر التي مر عليها عشرون سنة [*ملحوظة: سجل هذا الدرس في بداية التسعينات من القرن العشرين] كأنها حدثت بالأمس، مع أن هذه الحرب أخذوا منا فيها جزءا كبيرا واستعدنا جزءا صغيرا، ونقول عنه: نصرٌ وليبارك اهذي فيه! لأنه قُهِر جيش طالما اقتنعوا لمدة طويلة أنه لا يُقْهر)
لقد نُبِهت هذه العقيدة، فإذا بعبدالمطلب وبقية العرب -من بعد ما كانوا يقولون: نحن سدنة البيت، أي نحن حماة البيت، وهذا البيت محميٌّ بالآلهة المنصوبة حوله- فإذا بهم في هذا الوقت قد تركوا البيت ولم يعودوا سدنة له، فلما كلم أبرهة عبدالمطلب وقال له: تترك البيت وتكلمني في الإبل؟! قال له عبد المطلب: أما الإبل فانا صاحبها! أنا ربها وأما البيت فله رب يحميه.
وكان هذا إقراراً يخرج من عقائد موجودة في نفوس العرب لكن مطموسة: أن للبيت رب يحميه.
ترك إبرهة الإبل لعبد المطلب الذي أخذها وفرَّ إلى الجبال كغيره خائفا منتظر ما سيقضى عليه فيه، وحينئذ حدث ماتعلمون من ان الله عز وجل أرسل طيرا ما عرف الناس مثلها من قبل...
وانهزم الجيش الذي جاء ليهدم بيت الله بعد أن أقرَّ العرب بأنهم ليسوا سدنة للبيت، وإنما للبيت رب يحميه، وترجع الجيوش ويعود العرب إلى بيتٍ عرفوا أن للبيت رب يحميه.
هنا يولد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليقول: أنا رسول رب العالمين، وهذه الأصنام التي تعبدونها لا تنفع ولا تضر. لم يستطع أحد أن يقول له: بل تنفع وتضر، ومن قال هذا سجد في نهاية الأمر. ذلك أنهم رأوا بأعينهم وأعلنوا بألسنهم أن ليس هناك من يحمي البيت إلا رب البيت، وأن الأصنام لا غَنَاء فيها.
أُرْسِلَ نبيٌّ يقول لهم: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) وليتركوا هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر.


تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----15----


يظن بعضنا أن الكعبة محمية وأن الله لن يأذن لأحد أن يأخذها وأنه هو الذي يحميها (مثلما وقع في حادثة الفيل)، وقد كنت أشرح ذات يوم مخطط الإسرائيليين في القرن العشرين، وأتيت بخريطة لما يسمونه إسرائيل الكبرى التي تشمل مصر وفلسطين والاردن وسوريا والعراق والسعودية حتى ذلك الجزء الذي هو من مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). نسأل الله ألا يمكن لهم.
ساعتها سألني أحدهم: إذا كان الله قد حمى الكعبة أيام الكفر والكافرين حين كان الناس يعبدون الأصنام فأرسل الطير الأبابيل ولم يسمح للفيلة بهدم الكعبة، فكيف ونحن مسلمون.. هل يعقل أن يترك الله أحدا يأخذ الكعبة؟
نعم يفعل. وقد حدث ذلك بالفعل من قبل، واستولى بعض أعداء الله ومن عاندوا دين الله على الكعبة، وقُذِفت الكعبة بالمنجنيق. حدث هذا أكثر من مرة في تاريخ الإسلام.
إنما كانت حماية الله يوم حادثة الفيل لأنه لم تكن رسالة، ولم يكن أحد من الناس مكلف بالدفاع عن دين الله {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، لم يكن الله قد بعث لهم رسولا يخبرهم أنهم مكلفون بالدفاع عن مقدسات الدين، فلما هوجمت هذه المقدسات تكفل الله وحده بالدفاع عن مقدسات دينه.
أما بعد أن أعطى الله عز وجل الخلافة في الأرض إلى يوم القيامة لمن أرسل إليهم رسوله وكلفهم أن يدافعوا عن مقدسات الدين، فإما أن يدافعوا عن مقدسات الدين أو لا، فإن لم يدافعوا أصيبت مقدسات الدين بهذه المذلة وهذا العار! وهذا المسجد الأقصى قد ذهب من أيدي المسلمين كما ترون.


تراث الإمام
حازم أبو إسماعيل
----16----
لقد وَكَل الله تعالى مقدسات المسلمين إليهم بل قال لهم {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] يأتي الله بقوم يجاهدون، ينبثقون من ضمير الغيب.
إن دور المساجد أن يتربى فيها المسلمون ليقوموا بفروض هجرها أهل هذا الدين، وإن الله تعالى يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، والارتداد لا يعني الكفر بالضرورة، ولكن يعني أن يترك المرء دين الله يُسحق ويرتد هو إلى بيته لينجوا بنفسه، يترك دين الله يتمزق ويقول: نفسي نفسي! ويذهب إلى بيته فيستريح! ولذلك قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54].
لا بد أن نعلم أن حادثة الفيل إنما كانت لأنه لم تكن ثمة رسالة ولا أناس مكلفون بها!
الأمر الثاني الذي لا بد أن نعلمه أن لهة تعالى كرامة يكرم بها أهل دينه إذا صدقوا معه، وهذا من أعلى المعاني، ولا يتنافى مع ما كنا نقوله من أن حادثة الفيل لن تحدث مرة أخرى لأن الله كلَّف المسلمين بالحفاظ على المقدسات.
إن الله لن يرسل الطير الأبابيل إلى أناس فرطوا في الدين، ولن يحمي الله الكعبة لو جاءها الكافرون، ولا المسجد الأقصى، إلا أن يقوم أهل الدين فيدافعوا عنه.
هنا يمكن أن تتكرر حادثة الفيل مرة وثانية وثالثة وألف مرة، تتكرر مع قوم ينصرون الدين، وأبسط ما نتذكره في هذا ما حدث في أفغانستان –وكانوا في بداية الحْنة- فقد كانت جيوش الاتحاد السوفيتي تدخل عليهم بالمدافع و الدبابات والضرب بالطائرات، والمجاهدون لا يملكون الرادارات ولا يعرفون متى ستصيبهم الضربات.
وفي ذلك الوقت فوجئوا بأن طيرا في السماء لم يسبق أن رأوا له مثيلا (وقد قابلت بعض هؤلاء فقال لي: قد انقطعت هذه الطيور من سماء أفغانستان من شهور قلائل) كانت توجد في فترات المعركة حتى أطلقوا عليها اسما من أسماء الجهاد، يحكي لي أحد مشايخ الجهاد وقد جاوز الثمانين فيقول:
كانت تأتي هذه الطيور التي لم نر لها مثيلا فتطير من الشرق إلى الغرب، وبعد نحو عشرين دقيقة تأتي الغارة السوفيتية من نفس الاتجاه، فإذا طار هذا السرب من الجنوب إلى الشمال جاءت الغارة من هذا الاتجاه، ومع تكرر الأمر عرفنا أن هذه الطيور تنبهنا، حتى كنا إذا عبرت الطيور نتضاحك ونقول بقيت ثلاث دقائق على الغارة فنهرع إلى مخابئ الجبال، فتأتي الغارة وتلقي حممها ثم نخرج. هذا ما كتبه د. عبد الله عزام رحمه الله في كتابه، وسمعتها بأذني من أحد قادة المجاهدين لقيته في مِنى في أحد مواسم الحج.
المقصود أن حادثة الفيل وقعت في زمن كان في فترة من الرسل ليس فيها تكليف، وأنها لا تتكرر إذا خذل المسلمون دينهم، وإنما يمكن أن تتكرر عشرات المرات كرامة من عند الله لعباده المجاهدين إذا نصر المسلمون دينهم.










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق