الأحد، 13 مايو 2018

يحاولون هدم مركز الإسلام بينما ينهدم مركز العالم. وتركيا تصعد... لماذا؟

يحاولون هدم مركز الإسلام بينما ينهدم مركز العالم. وتركيا تصعد... لماذا؟
إبراهيم قراغول

تصعد قوى جديدة، وربما قوى أكبر، دائمًا في الوقت الذي تنهار فيه القوى المركزية حول العالم، وحينها تحدث تغيرات مثيرة وصادمة، ويشهد العالم انهيارات تراجيدية في مقابل أحداث صعود أخرى دراماتيكية ومبهرة. وتلك هي التغيرات التي ترسم ملامح القرون التالية. فهذه الفترات تعتبر أشد تحولات التاريخ الإنساني؛ إذ تشهد صعود حضارات وركود أخرى أو انهيارها أو حتى عودتها إلى الحياة من جديد.
لا تكفي أيّ فكرة أو خطاب أو حركة قاصرة النظر لفهم وشرح هذا الصدمة الكبيرة. ولن نجد فرصة لقراءة المستقبل وتوقع ماذا سيحدث وتخمين كيف ستكون تركيا في المستقبل إلا من خلال النظر من خلال نظرة أوسع والتفكير بعقل أعمق والإدراك بذاكرة أشمل والنظر إلى اليوم والمستقبل من خلال نظرة من أعماق التاريخ والسعي لقراءة المنطقة والعالم بشكل أوسع وقراءة المستقبل من خلال التغيرات التي تشهدها خريطة القوى والتحركات التي تعيشها خطوط الصدع حول العالم.
لقد بدأ عهد صعود تركيا
وفي الواقع لن نعرف ماذا تعني تصفية الحسابات التي نعيشها اليوم بشكل واضح إلا بهذه الطريقة. وكنت قد كتبت في مقالي السابق عبارات قلت فيها "نحن في عصر تأسيس الدولة السلجوقية، عصر قيام الإمبراطورية العثمانية، عصر إعلان الجمهورية التركية". فتركيا اليوم على مشارف حقبة صعود جديدة من خلال الاستمرارية السياسية لعهد الدولة السلجوقية والإمبراطورية العثمانية والجمهورية التركية.
ولهذا فإن تركيا هي طرف، بل مركز، لكفاح كبير وتصفية حسابات عظيمة. ولهذا السبب أيضًا فنحن نمر بفترة تأسيس وحجز مكان في مركز عالم المستقبل، فترة الانفتاح الكبير لما بعد القرن العشرين. فهذه هي حقبة الطموحات والحسابات والصراعات الكبيرة، وليس هناك أي فرصة للتضحية بكل هذا في سبيل حسابات صغيرة وطموحات شخصية وإخفاقات بسبب عمى سياسي.
الانقسام والشلل الذهني هما أكبر هزائمنا..
إننا نعاني من مشكلة عدم القدرة على قراءة زماننا جيدًا، عدم فهم ما حدث خلال العقود الثلاثة الماضية، لدينا مشاكل في الإدراك بسبب الانقسام الذهني وما ترتب عليه. فما يحدث منذ حرب الخليج عام 1991 وتأسيس "مراكز مكافحة الإرهاب" في كل ربع من أرباع العالم الإسلامي وتحويل مكافحة الإرهاب إلى عقيدة عالمية وشلل عقولنا من خلال الجدل حول الإسلام السياسي واحتلال الدول الإسلامية الواحدة تلو الأخرى بحجج مختلفة أو جرها نحو هاوية الحروب الأهلية؛ إنما كل هذا أجزاء ومراحل مخطط واحد ومحاولة احتلال واحدة.
ولو لاحظتم فستجدون أنه لا توجد أي واقعة من هذه الوقائع تعارض الأخرى، بل إنها كانت دائما متممة لبعضها بعض. وبينما كان كل هذا يحدث لم يتراجع الغرب قيد أنملة، بل اختلق طرقًا جديدة باستمرار لتنفيذ المزيد حتى في ظل أصعب الظروف. وقد سيقت دولة كل عام أو عامين إلى حالة من عدم الاستقرار، وأما نحن فقد ظننا أنّ ما يحدث إنما هو ظروف خاصة بتلك الدولة. ذلك أننا فرض علينا التفكير بهذه الطريقة، وهذا ما كان أكبر انتصاراتهم، وهو ما كان أكبر هزائمنا.. وهو ما كان بسبب شللنا الذهني أكثر من تدمير ديارنا.
التحالف الغربي يدمر مركز الإسلام
إنّ كل خطاب وبرنامج يأتينا من الغرب ليتنشر في ربوع بلادنا، بما في ذلك مشاريع الديمقراطية وحقوق الإنسان، إنما هو ذو محور أمني، وهو أحد مراحل تصفية الحسابات العالمية. ولقد مرت بنا أوقاتًا ساقوا فيها إلى جبهتهم باسم تصفية الحسابات هذه والاحتلال الغربي حتى أولئك الذين قاوموا تصفية الحسابات تلك. فهم حتى لم لاحظوا هذا. فتصفية الحسابات هذه تتضمن كسوفًا عقليًّا كهذا ومخططات مصقولة إلى هذا القدر.
إنّ الغرب يدمر "مركز الإسلام" اليوم. فهم قد نقلوا المعركة من حدود الإسلام الدامية إلى قلب الإسلام. وهذا حدث ويحدث أحيانًا من خلال الأسْر لا القتال. لأقولها صراحة؛ نحن أمام مخطط استيلائي كبير للغاية من أجل تدمير "مركز الإسلام". فقد شرعوا منذ تسعينيات القرن الماضي في تنفيذ المرحلة الثانية من الانهيار الذي بدأ بتفكك الدولة العثمانية. ولقد كان كل الهجمات التي استهدفت تركيا والدول الإسلامية منذ ذلك التاريخ تخدم هذا الهدف.
صعود تركيا في ظل كل هذه الظروف!
لقد تسببوا في المرحلة الأخيرة في انهيار بلاد الرافدين باحتلال العراق. وها هم اليوم يضعون شبه الجزيرة العربية ومقدسات المسلمين في مكة والمدينة تحت الرهن من خلال الأمير محمد بن سلمان وتغيير السلطة في السعودية. فمن احتلوا القدس قبل قرن من الزمان يبسطون سيطرتهم اليوم على مكة والمدينة من خلال تلك الكوادر. وهذه هي المرحلة الأخيرة من المخطط الذي أطلقوا عليه اسم "الحرب على الإسلام"!
لكن العجيب في الأمر أن مركز الغرب الذي يحاول تدمير مركز الإسلام يشرف على الانهيار. أو بالأحرى، فإنه في الوقت الذي تنهار فيه سيطرة الغرب الذي استمرت لقرون على بقية دول العالم، يسطع نجم قوى أخرى شرقية بسرعة كبيرة. وفي حين تكتسب العلاقات السعودية-الغربية بعدا جديدا ويتم تشكيل التحالفات والاتفاقات من أجل تدمير مركز الإسلام، فإننا نشهد بزوع نجم قوة جديدة، وإن ظهور تركيا بشكل ملفت وصعودها على الساحة في ظل هذا التحول التاريخي يعتبر أمرا ملفتا لأقصى درجة. وهذا هو المقام الذي يجب أن نقف عنده لنتدبر مليا.
ثمة استعدادات لما بعد الانتخابات
إن سبب تعرض تركيا لهذه الهجمات المكثفة من الداخل والخارج هو انتقالها إلى هذا الصعود التاريخي. فالقضية ليست قضية سياسة داخلية، كما أنها ليست قاصرة على الأحزاب السياسية، ولا علاقة لها بمزاعم قدرة المعارضة على إدارة البلاد بشكل أفضل.
إن الحملة التي يقودها أعداؤنا خلال السنوات الخمس الأخيرة عن طريق محاولات الانقلاب في الداخل والهجمات الصيحة والتعاون مع التنظيمات الإرهابية في الخارج، ربما تشهد تغيرًا في محتواها عقب الانتخابات المقبلة، وربما تشهد منطقتا شرق المتوسط وبحر إيجة تحركات، كما سنشهد حظرًا غربيًّا على الأسلحة، وسيجرّبون هجمات اقتصادية. سيقدمون على وضع تركيا في "خانة اليك". ولأن الحكومة تعلم هذا الأمر، فقد بكّرت الانتخابات، ليكون ذلك بمثابنة استعدادات للدفاع عن الوطن.
هناك مخطط يحمل عنوان "أسقط أردوغان وأوقف تركيا"..
فإذا كان الأمر كذلك، يجب تقييم التحالفات والخطابات السياسية خلال فترة الحملة التي أتحدث عنها من هذه الزاوية؛ إذ يجب أن نبحث في هذا الإطار عن سبب اهتمام الولايات المتحدة ودول أوروبا عن كثب إلى هذا الحد بالمعارضة وتوجهيها ودعمها لها، ولماذا تحول مخطط "أسقط أردوغان وأوقف تركيا" إلى مخطط مشترك لجميع الدول الغربية.
وأنا شخصيًّا أقيّم من هذه المقالة العمقَ التاريخي والسعة الجغرافية والتوقعات المستقبلية التي ترد في خطابات الرئيس أردوغان. فلا أرى أحدًا سواه يتحدث في هذا الاتجاه. وأعتبر هذا بمثابة دليل على صعود تاريخي وإشارة على واحد من التحولات الخطيرة في تاريخ البشرية.
مفاجأة تركيا أدهشتهم
هذا ما حدث في عهد الدولة العباسية. ففي الوقت الذي كانت فيه الخلافة على وشك السقوط وعدم القدرة على حماية نفسها، صعدت قوة جديدة على الساحة وأيقظت العالم الإسلامي من سباته وغيرت مجرى التاريخ. واليوم نشهد تحولا شبيها لما حدث آنذاك.
هذا هو صعود تركيا وتدخلها في التاريخ السياسي. فمن حاولوا هدم قلب الإسلام ومركزه قوبلوا بمفاجأة كبيرة، مفاجأة تركيا. وها هم اليوم يحاولون خنقها. وإن جميع الحسابات السياسية في تركيا ذات صلة وثيقة بهذا الأمر.
هذه معجزة، فرصة، نصيب..
لا يغرنكم كلمات كيليجدار أوغلو العاجزة عن استشراف آفاق المستقبل ولا حسابات آكشنر السياسية التي هي عبارة عن حقد وغضب ولا الدعم الدولي الذي يحصلان عليه ولا تكريس جهود التنظيمات الداخلية والخارجية جهودها لصالحهما. فالحساب والكفاح كبير للغاية.
يجب ألا تؤثر فيكم موجات الامتعاض والاستياء والغضب الشخصي والانزعاج التافهة في ظل وجود تصفية حسابات الماضي والمستقبل، وإلا فإننا سنذهب مع الريح في خضم حالة الفوضى هذه.
ولهذا فإنّ انتخابات 24 يونيو/حزيران هي وقت ترجيح كهذا بالنسبة لتركيا. فيجب على الجميع في ظل هذا التحول التاريخي العظيم أن يتحمل هذه المسؤولية الكبيرة ويفكر بشكل شامل ويتحرك على المستوى الإقليمي.
فما نشهده إنما هو معجزة، فرصة، نصيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق