كيف ابتكرت روسيا إستراتيجية ثلاثية الأبعاد لاستعادة نفوذها العالمي؟
بقلم: ستيفن ميتز (*)
(وورلد بوليتكس ريفيو)
وُرد في تقرير حديث يتناول عودة انبعاث كل من تنظيمي الدولة والقاعدة في ليبيا ذكر عرَضي تقريبا لعمليات القوات الخاصة الروسية التي تنشط على طول حدود ذلك البلد مع مصر والمساعدة في توفير الأسلحة للجنرال حفتر، الذي تسيطر قواته على شرق ليبيا. لكن هذه الحقيقة التي تبدو هامشية ترمز لنوعية الاتجاهات السائدة في السياسة الخارجية الجسورة التي تنتهجها روسيا في الفترة الأخيرة.
عندما كان العقيد معمر القذافي يسيطر على ليبيا من العام 1969 وحتى العام 2011، كان زبوناً ممتازاً للأسلحة والمعدات العسكرية السوفياتية. ولكن، في خضم الفوضى التي أعقبت الإطاحة به ثم وفاته، تعرضت السفارة الروسية في طرابلس للهجوم، وتم سحب كافة الدبلوماسيين الروس وعائلاتهم من البلد. وبدا في ذلك الحين أن موسكو تخلت عن ليبيا وأسقطتها من حساباتها.
لكنها تعاود الآن دخول هذه البيئة السياسية الفوضوية التي تعرضها منطقة شمال أفريقيا، وهي جزء من إستراتجية عالمية ثلاثية الأبعاد، والتي ترمي إلى تقوية روسيا سياسياً، وتعزيزها اقتصادياً، والسماح لها بأن تضرب بأكثر من وزنها في بيئة أمنية عالمية متغيرة باطراد.
البعد الأول في هذه الإستراتيجية هو الإخضاع: فبالتركيز على الدول المجاورة، وخاصة تلك التي كانت ذات مرة جزءاً من مدار الاتحاد السوفياتي أو الإمبراطوريات الروسية، صُمَم هذا البعد لضمان أن تكون حكومات الدول الجارة صديقة وخانعة أو خائفة من موسكو على الأقل. ويعكس ذلك حاجة روسيا إلى تشكيل مناطق أمنية عازلة حول أطرافها، فيما يجيء نتيجة للجغرافيا التي كانت قد سمحت بتعرضها للغزو عدة مرات في الماضي.
تتخذ سياسة الإخضاع التي تنتهجها روسيا عدة أشكال، ومنها الضغط الاقتصادي والهجمات السيبرانية –مثل الهجوم الذي شنته في العام 2007 على إستونيا وهجمات العام 2017 على أوكرانيا- والاعتداءات بالوكالة باستخدام الحلفاء المحليين –الذين عادة ما يكونون من الروس الموزعين عبر مختلف أجزاء الإمبراطورية الروسية- وفي الحالات المتطرفة، التدخل العسكري المباشر مثلما حدث في جورجيا في العام 2008.
وتشكل أوكرانيا، اليوم، هدفا أساسيا لسياسة الإخضاع الروسية، لكن الدول المجاورة التي تتسم بقدر أقل من المقاومة تلقت الرسالة بشكل أو بآخر. وحتى البلدان التي لم تتبع مثال بيلاروسيا وأصبحت مذعنة أمام موسكو، سوف تحاول مع ذلك تجنب إغضابها إلى أكبر قدر ممكن.
البعد الثاني للإستراتيجية الروسية هو إضعاف النظام العالمي الذي هندسه الغرب، وخاصة في المنطقة المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط. وكما هو الحال مع إخضاع جيران روسيا، يعكس هذا البعد الإستراتيجية الروسية التي سادت في خلال حقبة الحرب الباردة. ويعتمد جزء من هذا البعد على استخدام النزعة التعويقية obstructionism، باستخدام حق النقض (الفيتو) الروسي على قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من أجل نزع الشرعية عن -أو إعاقة- المساعي الجماعية التي تبذلها أمريكا وأوروبا لمنع أعمال الإبادة الجماعية خلال الحرب الأهلية الليبية أو ممارسة الضغط على بشار الأسد للتخلي عن السلطة، أو التفاوض على وضع نهاية للحرب الأهلية الكارثية في بلده على الأقل.
كما تستخدم روسيا أيضاً مجموعة من الأساليب لإضعاف الولايات المتحدة والدول الأوروبية مباشرة، بالاعتماد بكثافة على حرب المعلومات لزرع الانقسامات السياسية في الغرب وإضعاف الثقة في مؤسساته السياسية. وقد أثر السيبرانيون الروس و"الأخبار الزائفة" التي يقوم البلد بترويجها في نتائج الانتخابات الغربية بدرجة كبيرة، بل وربما حاسمة. وبينما لم تكن روسيا هي السبب التحزب المفرط وإضعاف الإرادة القومية اللذين يشلان الولايات المتحدة والدول الغربية محلياً، فقد استغلتهما بشكل أكثر فعالية بكثير مما فعل الاتحاد السوفياتي قليل الذكاء أيديولوجياً. وقد أصبح ذلك ممكناً مع غياب أي دفاع جمعي حازم ضد الحرب السياسية الروسية من طرف الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، ووجود قادة سياسيين غربيين وحركات ومنظمات غربية راغبة في التسامح مع استغلال موسكو طالماً أن ذلك يحقق لهم الفائدة.
البعد الثالث للإستراتيجية الروسية العالمية هو الأكثر أهمية: إيجاد أسواق لمبيعات الأسلحة الروسية وتأمين حمايتها. وهذا هو السبب الحقيقي في أن موسكو تحاول العودة إلى ليبيا، والأكثر أهمية، دعمها للأسد. وفيما عدا الأسلحة، ثمة القليل من البضائع المصنوعة في روسيا والتي تتمتع بالقدرة على المنافسة في الاقتصاد العالمي، وهو ما يدفع البلد إلى الاعتماد على صادرات المواد الخام والطاقة. لكن قادة روسيا يعرفون أن قوة عظمى –وهي المكانة التي يريدونها لبلدهم بشكل يائس- يجب أن تفعل أكثر من مجرد بيع السلع.
تستطيع روسيا أن تحقق النجاح فيما يعود في جزء منه إلى تمتع أسلحتها بالقدرة على المنافسة في السوق العالمية، ولأنه ليس لديها وازع من ضمير إزاء ماهية زبائنها. ولدى المشترين الآخرين مثل حفتر والأسد القليل من الخيارات الأخرى. ولكن، بينما تستخدم الأسلحة الروسية في الحرب الأهلية الروسية، كانت روسيا تبحث عن فتح طرق مع الدول التي اعتادت أن تشتري أسلحتها من الولايات المتحدة وأوروبا فقط. وتشمل هذه الدول الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، وقطر، والمملكة العربية السعودية وتركيا. وفي الحقيقة، تبيع روسيا الأسلحة الآن لأكثر من 50 بلداً ومنظمة سياسية.
بما أن هذه المكونات الثلاثة للإستراتيجية الروسية تعزز بعضها البعض، فإنها تشكل خطة عالمية فعالة ومتماسكة. فعن طريق إضعاف الغرب سياسياً، إن لم يكن إستراتيجياً، تقوم موسكو بتوسيع سوقها المحتملة لمبيعات الأسلحة العالمية. وتوفر مبيعات الأسلحة الأموال التي يمكن استخدامها لتقوية الجيش الروسي نفسه وإسكات أي معارضة في الوطن للرئيس فلاديمير بوتين عن طريق خلق تدفق نقدي لكسب ولاء النخب الروسية. وبدلاً من أن يهدد روسيا أو يكون شيئاً تريد روسيا أن تساعد في معالجته، فإن الانهيار الجاري للنظام القديم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يخلق أسواقاً جديدة تتسع باستمرار للأسلحة الروسية، وبالتالي تصاعد النفوذ الروسي.
مع ذلك، وعلى المدى القريب، ربما لا تريد روسيا أفولاً نهائياً للنظام العالمي الراهن، لأن من شأن ذلك أن يخلق الفوضى، لكنها تريد أن تضعف هذا النظام في واقع الأمر. والأمر أشبه بالكائن الطفيلي الذي سيموت هو نفسه إذا مات العائل. ويشير ذلك إلى أنه طالما ظلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون مفتقرين إلى اليقين إزاء دورهم في صيانة النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب، فإن روسيا ستواصل استخدام إستراتيجيتها ثلاثية الأبعاد، والتي ساعدت في تحويل دولة مبتلاة بنقاط ضعف سياسية واقتصادية عميقة إلى لاعب دولي مهم.
(*) ترجمة: صحيفة "الغد"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق