في نهاية القرن الرابع الهجري انتهت السيطرة التي فرضها المنصور بن أبي عامر على الأندلس تحت ظل الخلافة الأموية بها، وجاء ولده شنجول عبد الرحمن الذي عُرف باستهتاره وغبائه السياسي ليزيد الفتنة في الأندلس، ويعلن نفسه خليفة منهيا بذلك حقبة بني أمية، وقد رأينا في تقرير "فتنة شنجول" كيف تحالفت بقايا الأسرة الأموية مع البربر القادمين من الجنوب للقضاء على هذا الفتى المراهق الذي لم يحسب للعواقب حسابا مثل أبيه المنصور ابن أبي عامر الذي لم يتجرأ -مع قوته الطاغية- على أن يُنهي حكم الأمويين في الأندلس.
فكان مقتل شنجول بداية الفتنة الكبرى التي استمرت عشرين سنة في ربوع الأندلس شهدت فيها سفك الدماء، وارتقاء خلفاء ضعاف من نسل بني أمية، ثم ارتقاء أسرة بني حمود البربرية وظهور قوة الفتيان الصقالبة العامريين كمركز عسكري وسياسي اتخذ من شرق الأندلس مقرا لهم، وقد رأينا في تقريرنا "دماء في قرطبة" أثر الاختلافات بين هذه المجموعات على الأوضاع السياسية والاجتماعية في قرطبة وفي عموم الأندلس.
المعتمد ملك إِشبيلية
كان إعلان إنهاء الحكم الأموي في الأندلس عام 422هـ بداية لمرحلة جديدة عُرفت في التاريخ الأندلسي باسم "تاريخ ملوك الطوائف"، وهم الأمراء الذين أعلنوا استقلالهم السياسي عن قرطبة بعد سقوط الأمويين، وكان من جملة هؤلاء القاضي الذكي الأريب إسماعيل بن عبّاد الذي وثق فيه أهل إشبيلة والغرب الأندلسي أثناء تلك الفتنة التي عصفت بقرطبة، فبفضل علمه وحنكته حرص على فرض الهدوء، وحياد مدينة إشبيلة أثناء ذلك النزاع الرهيب، وقد عرف له أهل إشبيلية هذا الفضل وهذه المكانة.
لذلك يصفه مؤرخ تلك الحقبة ابن حيان بأنه "رجل الغرب (أي غربي الأندلس) قاطبة، المتصل الرياسة في الجماعة والفتنة"، وينوه بوفور عقله وسبوغ علمه، وركانته ودهائه وبُعد نظره، ويقول لنا إنه كان "أيسر من بالأندلس وقته، ينفق من ماله وغلّاته، لم يجمع درهما قط من مال السلطان ولا خدمه"[1].
استقر الحكم لآل عبّاد في إشبيلية وجاء الدور على الابن المعتضد أبي عمرو عبّاد بن محمد بن إسماعيل، الذي تمكن من توسيع رقعة مملكة إشبيلية غربا لتضم مدن لِبلة ولبة وجزيرة شريطش وغيرها، وفي الجنوب خاض صراعا مع البربر ملوك جنوب الأندلس فانتزع منهم قرمونة ورُندة وأركش وغيرها، وعاش المعتضد حياة الحرب والسياسة على هذا المنوال في الصراع مع خصومه ملوك الطوائف الآخرين.
فكان مقتل شنجول بداية الفتنة الكبرى التي استمرت عشرين سنة في ربوع الأندلس شهدت فيها سفك الدماء، وارتقاء خلفاء ضعاف من نسل بني أمية، ثم ارتقاء أسرة بني حمود البربرية وظهور قوة الفتيان الصقالبة العامريين كمركز عسكري وسياسي اتخذ من شرق الأندلس مقرا لهم، وقد رأينا في تقريرنا "دماء في قرطبة" أثر الاختلافات بين هذه المجموعات على الأوضاع السياسية والاجتماعية في قرطبة وفي عموم الأندلس.
المعتمد ملك إِشبيلية
كان إعلان إنهاء الحكم الأموي في الأندلس عام 422هـ بداية لمرحلة جديدة عُرفت في التاريخ الأندلسي باسم "تاريخ ملوك الطوائف"، وهم الأمراء الذين أعلنوا استقلالهم السياسي عن قرطبة بعد سقوط الأمويين، وكان من جملة هؤلاء القاضي الذكي الأريب إسماعيل بن عبّاد الذي وثق فيه أهل إشبيلة والغرب الأندلسي أثناء تلك الفتنة التي عصفت بقرطبة، فبفضل علمه وحنكته حرص على فرض الهدوء، وحياد مدينة إشبيلة أثناء ذلك النزاع الرهيب، وقد عرف له أهل إشبيلية هذا الفضل وهذه المكانة.
لذلك يصفه مؤرخ تلك الحقبة ابن حيان بأنه "رجل الغرب (أي غربي الأندلس) قاطبة، المتصل الرياسة في الجماعة والفتنة"، وينوه بوفور عقله وسبوغ علمه، وركانته ودهائه وبُعد نظره، ويقول لنا إنه كان "أيسر من بالأندلس وقته، ينفق من ماله وغلّاته، لم يجمع درهما قط من مال السلطان ولا خدمه"[1].
استقر الحكم لآل عبّاد في إشبيلية وجاء الدور على الابن المعتضد أبي عمرو عبّاد بن محمد بن إسماعيل، الذي تمكن من توسيع رقعة مملكة إشبيلية غربا لتضم مدن لِبلة ولبة وجزيرة شريطش وغيرها، وفي الجنوب خاض صراعا مع البربر ملوك جنوب الأندلس فانتزع منهم قرمونة ورُندة وأركش وغيرها، وعاش المعتضد حياة الحرب والسياسة على هذا المنوال في الصراع مع خصومه ملوك الطوائف الآخرين.
قصر المعتمد بن عباد - إشبيلية
على أنه عشق الأدب وأحبه، قال الحميدي: "كان أبو عمرو بن عباد صاحب إشبيلية، من أهل الأدب البارع، والشعر الرائع، والمحبة لذوي المعارف. وقد رأيت له سفرا صغيرا في نحو ستين ورقة من شعر نفسه"[2]. وقال ابن القطان: "وكان لأهل الأدب عنده سوق نافقة، وله في ذلك همة عالية، ألف له الأعلم أديب عصره، ولغوي زمانه، شرح الأشعار الستة، وشرح الحماسة، وألف له غيره دواوين وتصانيف لم تخرج إلى الناس"[3].
وتوفي المعتضد بن عباد في جمادى الآخرة سنة 461هـ/1069م بعد حكم استمر ثمانية وعشرين سنة لمملكة إشبيلية التي توسعت في عصره، وأضحت واحدة من أهم وأقوى إمارات الطوائف في الأندلس، وقد خلفه في يوم وفاته ولده، محمد بن عباد، الملقب بالظافر، والمؤيد بالله، والمعتمد على الله، وهذا اللقب الأخير هو الذي غلب عليه واشتهر به طوال حياته. وكان المعتمد يوم جلوسه على عرش مملكة إشبيلية فتى في الثلاثين من عمره، وكان مولده بمدينة باجة في سنة 431 هـ/ 1040م وقيل بل في ربيع الأول سنة 432هـ. وكان مثل أبيه، في حسن القوام، وروعة المظهر، وعنفوان الشباب[4].
ويقول لنا ابن الأبار في وصف المعتمد أنه: "كان من الملوك الفضلاء، والشجعان العقلاء، والأجواد الأسخياء المأمونين، عفيف السيف والذيل مخالفا لأبيه في القهر والسفك، والأخذ بأدنى سعاية، رد جماعة ممن نفى أبوه، وسكن وما نفر، وأحسن السيرة، وملك فأسجح، إلا أنه كان مولعا بالخمر، منغمسا في اللذات، عاكفا على البطالة، مخلدا إلى الراحة، فكان ذلك سبب عطبه، وأصل هلاكه"[5].
فخاض المعتمد مثل أبيه سلسلة طويلة من الحروب والأحداث، وتقلب في غمار الخطوب والجدود، وكان عهده عهد الحسم في تاريخ دول الطوائف، وفي تاريخ الأندلس قاطبة؛ ولكنه لم يشتهر في ميدان الحرب والسياسة، قدر ما اشتهر في ميدان الأدب والشعر، والفروسية، والجود، ومهما كانت وجوه الضعف الشخصية التي كان ينطوي عليها، من عكوف على الشراب، وانغماس في مجالي اللهو والترف، ومهما كانت أخطاؤه السياسية الفادحة، التي ترتبت عليها محنة الأندلس، ثم محنته الخاصة: مهما كان من هذه الصفات القاتمة فإن شخصية المعتمد بن عباد تبرز لنا من خلال هذه الغمار، ومن الناحية الأخرى، مشرقة وضاءة، تتوجها عبقريته الأدبية والشعرية، وتزينها صفاته الإنسانية الرقيقة وتطبعها محنته المؤلمة، بالرغم من كل أوزاره وأخطائه، بطابع الاستشهاد المؤثر[6].
وكان المعتمد أثناء حياة أبيه المعتضد، واليا لمدينة شلب، وليها عقب استيلاء بني عباد عليها في سنة 455 هـ (1063 م)، وكان يعاونه خلال تلك الفترة في إدارة ولاية شلب وزيره أو أمينه أبو بكر بن عمار، الذي تولى وزارته بإشبيلية فيما بعد، واشتهر ذكره، واضطلع له بأخطر المهام السياسية والعسكرية.
كان من سمات ذلك العصر أن كل أمير كان يجعل إرادته القانون الذي يرجع إليه، وكان كل أمير يتربص بجيرانه من الأمراء الدوائر، ويتحين الفرص للانقضاض عليهم وإزالة ملكهم أو لاقتطاع جانب من أملاكهم وضمها إلى أملاكه، ولا يرى بأسا في ذلك من الالتجاء إلى الخديعة والدس ومعاقدة العدو الرابض للإيقاع بالأمراء جميعهم، وأكثر أمراء هذا العصر كانت تلهيهم توافه الأمور وصغيراتها عن الأمور الجسام، وتصرفهم أهواؤهم ونزواتهم عن مراقبة الحوادث، والتأهب للقائها، ومحاولة علاج الموقف الضنك، وإصلاح الأحوال السيئة، والتعاون في ذلك مع جيرانه وأضرابه من الملوك والأمراء[7].
إسراف ورفاهة!
ويُعدّ المعتمد قطب الرحى في أحداث ذلك العصر، فقد اتسعت مملكته حتى شملت إشبيلية وقرطبة قاعدة الخلافة القديمة والجزيرة الخضراء ومرسية، ولكنه كان يؤدي الجزية مثل سائر ملوك الأندلس وأمرائها، وكان المعتمد على قوته وسمو أدبه وعلو ثقافته وما أوتي من الكرم والأريحية والشجاعة لا يخلو من العيوب التي كانت فاشية في عصره، وقد كان لإسرافه في الإنفاق على ندمائه وشعرائه وتماديه في طلب المتعة وقع سيئ في نفوس رعيته أوسع المجال لكثير من القيل والقال[8].
وقد صدح الشعراء بالثناء على المعتمد لهذه النعم الجزيلة التي أجراها عليهم، وهذه المنح المتدفقة التي ثبّتها لهم، من هؤلاء المعترفين بفضله الشاعر أبو الحجاج يوسف بن عيسى الذي يخاطب المعتمد بن عباد مثنيا عليه وقائلا:
يا من تملكُني بالقولِ والعملِ ...
ومبْلَغي في الذي أمّلته أملَي
كيف الثناءُ وقد أعجزتني نِعماً ...
ما لي بِشُكري عليها الدهرُ مِن قِبلِ
رفعتَ للجودِ أعلاماً مُشهرةً ...
فبابُك الدهرُ منها عامرُ السُّبُلِ[9]
ومن فحول شعراء الأندلس الذين وفدوا على المعتمد وغشوا ساحته عبد الجليل بن وهبون، وكان من أهل مدينة مرسية، وأنشد يوما بين يدي المعتمد بعض الحاضرين بيتين لعبد الجليل هذا قالهما قديما قبل وصوله إلى المعتمد وهما:
قلَّ الوفاءُ فما تلقاهُ في أحدٍ
ولا يمرُّ لمخلوق على بالٍ
وصار عندهمُ عنقاء مُغربة
أو مثل ما حدّثوا عن ألف مثقالِ
فأعجب المعتمد بهما، وقال: لمن هذان البيتان؟، فقالوا له: هما لعبد الجليل بن وهبون أحد خدم مولانا!، فقال المعتمد عند ذلك: هذا والله اللؤم البحت، رجل من خدّامنا والمنقطعين إلينا يقول: أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال! وهل يتحدث أحد عنه بأسوأ من هذه الأحدوثة؟ وأمر له بألف مثقال ذهب، فلما دخل عليه يتشكر قال له المعتمد: يا أبا محمد هل عاد الخبر عيانا؟!، فقال ابن وهبون: إي والله يا مولاي! ودعا له بطول البقاء[10]!
كان المعتمد محبا للترف واللهو، منفقا على الشعراء المادحين إنفاقا لا حد له، حدث مرة أن جلس في مجلس احتفل فيه احتفالا زائدا، وأحضر فيه بعض الطرائف والنوادر الملوكية، وكان في جملة تلك الطرائف تمثال جمل من البلور، وله عينان ياقوتيتان، وقد حُلّي بنفائس الدر، وكان حاضر هذا المجلس الشاعر أبو العرب الصقلي، وأنشد المعتمد قصيدة، فأمر له المعتمد بذهب كثير مما كان بيده من العملة الجديدة، وطمحت عين أبي العرب إلى تمثال الجمل فقال معرّضا بذلك: "ما يحمل هذه الصلة إلا جمل"!، فقال له المعتمد: "خذ هذا الجمل فإنه حمّال أثقال"، فارتجل أبو العرب قائلاً:
أهديتني جملاً جونا شفعت به
حملاً من الفضّة البيضاء لو حملا
نتاج جودِك في أعطان مكرمة
لا قد تصرف من منع ولا عقلا
فاعجب لشأني فشأني كله عجبٌ
رفهّتني فحملتُ الحملَ والجملا[11]
ومما ذكره المؤرخ الأندلسي ابن بسام عن إسراف المعتمد أنه أمر بصياغة غزال وهلال من ذهب، فصيغا، فجاء وزنهما سبعمئة مثقال، فأهدى الغزال إلى زوجته، والهلال إلى ابنه الرشيد، فوقع له إلى أن قال:
بعثنا بالغزال إلى الغزالِ ...
وللشمس المنيرة بالهلال[12]
غزل المعتمد!
لم يكن المعتمد بن عباد هذا الملك المرفّه متذوقا للشعر سماعا له فقط، بل كان هو نفسه ذا شعر صادح، تنوعت موضوعاته بين الفخر والغزل والرثاء والتهكم وحتى عهد المحنة والأسر قال شعرا يقطر مرارة وألما.
كان الغزل أهم أغراض شعر المعتمد، في عهد الإمارة والملك، وهو غزل حقيقي تحدّث فيه عن عواطفه في حال الرضا والغضب، والقرب والبعد، وأظهر ما فيه أنه لم يقف على واحدة فقط، وإنما تعدى غزله إلى جواريه وزوجاته، وإن اشتُهرت منهن اعتماد الرميكية أم الربيع، لكن في شعره عرفنا جوهرة وسحْر ووداد وقمر.
يقول في وداد:
أشربُ الكأسَ في وداد ودادك ***
وتأنس بذكرها في انفرادك
قمرٌ غاب عن جفونك
مرآهُ وسُكناه في سواد فؤادك!
ويقول متغزلا في اعتماد الرُّميكية أم ابنه الربيع:
تظنُّ بنا أم الربيع سآمة
ألا غفر الرحمنُ ذنبًا تُواقعُه
أأهجُر ظبيًا في فؤادي كناسُه
وبدرَ تمام جفوني مطالعه
وروضةَ حُسن أجتنيها وباردًا
من الظلم لم تخطر علي شرائعه
إن هذا الغزل الذي لا يقتصر على امرأة أو جارية واحدة من نسائه، يدل على أن صاحبه كان مغرما بالجمال يُعجب به أينما كان، "وأغلب الظن أن ميدان حبّه كان جواريه وحظاياه، وهؤلاء كنّ قريبات منه، ولهذا لا تحسّ في شعره لوعة ولا حرمانا، فهجر الجواري دلال ينتهي بوصل، وخصام لا يلبث الصلح أن يعقبه، والفراق إذا كان اليوم ففي غد اللقيا والوصال، وكثيرا ما صور في شعره مداعبات جرت بينه وبين من يهوى، ولعل من أرقّها تلك التي صوّرها وقد جرى بينه وبين جاريته جوهرة عتاب، فكتب إليها يسترضيها فأجابتها برقعة لم تعنونها باسمها، فقال:
لم تَصْفُ لي بعدُ، وإلا فلم
أرى في عنوانها جوهرة
دَرَت بأني عاشق لاسمها
فلم ترد للغيظ أن تذكره
قالت: إذا أُبصِره ثانيا
قبِّله، والله لا أبصره"[13]
وكان المعتمد بن عبّاد كثيرا ما ينتاب وادي الطلح مع رميكيته، وأولي أنسه ومسرته، وهو واد بشرف إشبيلية ملتفّ الأشجار، كثير ترنم الأطيار، وفيه يقول نور الدين ابن سعيد:
سائل بوادي الطّلح ريح الصّبا
هل سخّرت لي من زمان الصّبا
كانت رسولاً فيه ما بيننا
لن نأمن الرّسل ولن نكتبا
يا قاتل الله أناساً إذا
ما استؤمنوا خانوا فما أعجبا
هلاّ راعوا أنّا وثقنا بهم
وما اتّخذنا عنهم مذهبا
يا قاتل الله الذي لم يتب
من غدرهم من بعد ما جرّبا
واليمّ لا يعرف ما طعمه
... إلاّ الذي وافى لأن يشربا
دعني من ذكر الوشاة الألى
... لمّا يزل فكري بهم ملهبا
واذكر بوادي الطلح عهداً لنا
... لله ما أحلى وما أطيبا
بجانب العطف وقد مالت ال
أغصان والزهر يبثّ الصّبا
والطير مازت بين ألحانها
وليس إلا معجباً مطربا[14]
الطريق إلى الزلاقة!
كانت السياسة في عصر ملوك الطوائف لعبة قذرة، يتحالف هؤلاء الملوك ضد بعضهم البعض بملوك الصليبيين في قشتالة وليون، كانت الطامة الكبرى حين رضخ المعتمد بن عباد لملك قشتالة ألفونسو لما أراد الاستيلاء على طُليطلة سنة 478هـ/1081م، وخاف على ملكه أن يزول؛ إذ رأى من استفحال قوة ألفونسو، وتغلبه على سائر ممالك الطوائف المتاخمة لمملكته، فقد خشي أن ينساب تيار الغزو إلى أراضيه، ورأى أن عقد المهادنة والصلح مع ملك قشتالة، هو خير ضمان لاتقاء شره، وسلامة مملكته[15].
فبعث وزيره البارع ابن عمار إلى ليون ليفاوض ملك قشتالة، وانتهى ابن عمار إلى أن عقد معه معاهدة، يتعهد فيها ملك قشتالة بأن يعاون ابن عبّاد بالجند المرتزقة ضد سائر أعدائه من الأمراء المسلمين، ويتعهد ابن عباد مقابل ذلك بأن يؤدي إلى ملك قشتالة جزية كبيرة، ويتعهد بالأخص بما هو أهم، وهو أن يتركه حرا طليقا في أعماله ضد مملكة طليطلة والاستيلاء عليها، وألا يعترض مشروعه في الاستيلاء عليها. وربما كان في الرسالة التي بعث بها المعتمد فيما بعد إلى ألفونسو السادس ما يؤيد هذه الرواية، حيث يعرب المعتمد عن ندمه لمسالمة ملك قشتالة، وقعوده عن نصرة إخوانه[16].
كان ذلك الاتفاق المخزي سببا قويا في استيلاء ملك قشتالة ألفونسو السادس على مدينة طُليطلة، ولأول مرة في تاريخ الأندلس الإسلامية، ومنذ الفتح الإسلامي تعبر الجيوش الصليبية إلى نهر التاجة لتستولي على المدن والحصون الإسلامية دون مقاومة تُذكر، ولأول مرة يستفيق هؤلاء الملوك المتصارعون، ويدرك ابن عباد أنه السبب الأبرز في هذه الخسارة الفادحة للأندلس باتفاقه مع ألفونسو، وتراخيه عن نصرة جيرانه المسلمين في طُليطلة وهو أهم وأقوى ملوك الطوائف، ولم يجد ملوك الطوائف حلا لهذه المصيبة سوى الاستعانة بالمرابطين في المغرب.
كان المرابطون قوة يُحسب لها حساب في سياسة ملوك الطوائف، فقد كان ثمة نقاش فيما بينهم أن مجيء المرابطين إلى الأندلس يعني القضاء على نفوذهم السياسي، ولعل كلمة ابن عبّاد في هذا السياق كانت ولا تزال مثلا سائرا حين قال: "رعي الجِمال خير من رعي الخنازير"، يقصد بذلك أن خير له أن يغدو أسيرا لدى أمير المسلمين يرعى جِماله، من أن يغدو أسيرا لملك قشتالة النصراني[17].
فجاء يوسف بن تاشفين بقوات المرابطين إلى الأندلس، والتقت بقوات ملوك الطوائف وعلى رأسهم المعتمد بن عباد، وما لبث الجميع أن وحّدوا الصفوف والتقوا بقوات ألفونسو في معركة الزلاقة الشهيرة في يوم الجمعة 12 رجب 479هـ، وقد كُتب النصر للمسلمين، والهزيمة الفادحة للقوات الصليبية.
الأمير الأسير!
عاد يوسف بن تاشفين إلى مراكش بعد هذا النصر وترك حامية مرابطية قُدّرت بثلاثة آلاف مقاتل، على أنه قرر العودة في عام 483هـ حين رأى المشكلات الجمة، الدينية والاجتماعية، والضعف العسكري والسياسي، وعودة بعض ملوك الطوائف إلى التحالف مع ألفونسو ضد المرابطين أنفسهم، "فما نهضت عليه الأدلة، وأكده رسله يومئذ، هو أن المعتمد بن عباد، وعبد الله بن بلقين أمير غرناطة وغيرهما من أمراء الطوائف، قد عقدوا مع ملك قشتالة اتفاقات سرية، يتعهدون فيها بالامتناع عن معاونة المرابطين بالمال والمؤن، وبالانضواء تحت لواء ألفونسو وحمايته"[18].
فقرر يوسف بن تاشفين القضاء على هؤلاء الملوك وضم الأندلس إلى دولة المرابطين بعد استفتاء رأي كبار علماء الأمة حينها كالإمام الغزالي وغيره وهو تم له، فسقطت غرناطة ثم إشبيلية والجزيرة الخضراء وبقية المدن الأندلسية بعد محاولة فاشلة لاسترداد طليطلة، وتمكن من أسر عدد من هؤلاء الملوك وعلى رأسهم المعتمد بن عبّاد، الذي أنزل به يوسف بن تاشفين عقوبة النفي إلى مدينة أغمات بالقرب من مراكش في المغرب الأقصى.
يُروى أنه لما خُلِع المعتمد ونفاه يوسف بن تاشفين إلى العدوة، فوصل إلى موضع منها وأهل البلد خارجون للاستسقاء، فأنشد قائلا:
خرجوا ليستسقوا فقلتُ إليهمُ
دَمعي ينوبُ لكم عن الأنواءِ
قالوا حقيقٌ في دموعك مقنع
لكنها ممزوجةٌ بدماء
في أغمات عاش المعتمد حياة زاهد يُسلّي نفسه بالصبر والاحتساب على ما مضى، يُقدّم وصية لنفسه ولكل جازع يتذكر ماضيه التليد فينهمر في البكاء على مُلك ضائع، يقول:
اقنعْ بحظّك في دُنياكَ مَا كانا
وعِزَّ نفسك إن فَارقَتَ أوطانا
في الله مِن كُلّ مفقودٍ مَضى عِوضٌ
فأشعِرِ القلبَ سُلواناً وإيمانا
أكلّما سَنَحَت ذِكْرَى طَرِبتَ لها
مجَّت دمُوعُك في خدّيك طُوفانا
أما سمعتَ بسلطانٍ شبيهك قد
بـزَّته سود خطوب الدهر سلطانا
وطِّنْ على الكُرْهِ وارْقُب إثره فرجاً
واستغفِرِ الله تغْنَم مِنه غُفرانا
قبر المعتمد بن عباد وزوجته اعتماد الرميكية - أغمات، المغرب
توفي المعتمد بن عباد في منفاه بعد الترحيل بخمس سنوات سنة 488هـ/1095م عن عمر ناهز الرابعة أو الخامسة والخمسين من عمره، وقد ظلت سيرة المعتمد عقب وفاته مليئة بالعبر، ولا يزال قبره في مدينة أغمات بالمغرب يُزار إلى اليوم، وفي زيارته العبرة والعظة لحياة ملك أديب، انتُزعت منه الإمارة في غمضة عين، ثم عاش أخريات عمره أسيرا لا قوة له.
وزار قبر المعتمد أديب الأندلس لسان الدين بن الخطيب في القرن الثامن الهجري في رحلته إلى المغرب بعد وفاته بثلاثة قرون، يقول: "وقفتُ على قبر المعتمد بن عبّاد بمدينة أغمات في حركة راحة أعملتُها إلى الجهات المرَّاكشية، باعثُها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار سنة 761هـ، وهو بمقبرة أغمات في نُشز مِن الأرض، وقد حفَّت به سدرة، وإلى جانبه قبر اعتماد، وعليهما هيئة التغرّب ومُعاناة الخمول من بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتها، فأنشدتُ في الحال:
قد زرتُ قبرك عن طوعٍ بأغمات
رأيتُ ذلك مِن أولى المهمّاتِ
لم لا أزوركَ يا أندى الملوك يداً
ويا سراجَ الليالي المدلهمّاتِ
وأنت مَن لو تخطَّى الدّهرُ مصرعه
... إلى حياتي لجادَت فيه أبياتي
أنافَ قبرك في هضبٍ يميزه
فتنتحيه حفيات التحيات
كُرّمت حياً وميتاً واشتُهرت علاً
فأنت سلطان أحياءٍ وأموات"
وهكذا نرى في سيرة المعتمد بن عباد حياة اللهو والترف والمؤامرات والعودة إلى الجادة، تلك الحياة التي اتسم بها عصر ملوك الطوائف الذين رأوا سقوط جزء كبير من شمال ووسط الأندلس وقاعدته طليطلة في أيدي القشتاليين ولم يحركوا ساكنا، في واحدة من أخطر الهزائم في تاريخ الأندلس، بل لم يقف هؤلاء عند هذا الحد، فرغم هزيمة القشتاليين في الزلاقة بفضل قوة المرابطين، عادوا مرة أخرى للتحالف السري مع العدو القشتالي للحد من قوة المرابطين وطردهم من الأندلس بالكلية، وهكذا تعلمنا من سيرة المعتمد بن عباد أن سياسة اللعب على الحبال مآلها الهزيمة المفجعة.
سيرة المعتمد بن عباد صورت حياة اللهو والترف والمؤامرات والعودة للجادة، تلك الحياة التي اتسم بها عصر ملوك الطوائف الذين رأوا سقوط جزء كبير من الأندلس ولم يحركوا ساكنا.
ردحذف