جماعة هل من مزيد؟
يا عزيزي: لم يعد ثمّة شيء يوقف اندفاع آلة البطش في مصر، فلا تهدر طاقتك في اللهاث حول تعويذةٍ لم تعد صالحةً للاستهلاك، ولم تعد قادرةً على أن تعبر بأحد إلى شاطئ النجاة من المقصلة.
صار باعثاً على الأسى أن يتوهم أحدٌ أنه يستطيع الإفلات من المقصلة، باستئناف قصف من لا حول لهم ولا قوة، في الزنازين، أو في جوف القبور، أو في عراء المنافي.. لم يعد مجدياً أن تعاود الاستئساد على "الإخوان"، كي تنجو من طوفانٍ يبتلع كل من في طريقه من الأطياف المختلفة، ذلك أنه يتجاور في قيظ المعتقلات الآن الإسلاميون وخصوم الإسلاميين، وقد يحدث أن يجد حازم عبد العظيم، مثلاً، نفسه وجهاً لوجه مع عصام سلطان ومحمد البلتاجي، من دون ترتيب، فالقصة لم تعد، عند النظام، الحرب على "الإخوان"، إذ لم يبق منهم أحد لم يسجن أو يُنفى أو يُقصى من الحياة.
لا داعي، والحال كذلك، لاجترار مزيد من الأكاذيب والأوهام، فتلك التعويذة لم تعد صالحةً للنجاة من فيروس الطغيان الفتاك، وهذه الأعشاب لم تعد صالحةً للمضغ، ولا تُطرب أحداً، إذ ملّتها الأذن، وباتت نغمةً ممجوجةً، لا تفيد أحداً إلا النظام، ولا تضرّ أحداً إلا ضحاياه، إخواناً كانوا أم ضد الإخوان، لأنك، ببساطة، تمنح السلطة وفرةً من المفردات والعبارات التي تنفعها في اختراع الاتهامات، وتكييف قرارات الاعتقال العشوائي، لتبدو، وهي تبطش، وكأنها تستجيب لما يقوله الناشطون السياسيون، المصابون بفوبيا الإخوان، فتجد حلولاً مجانيةً بتصنيف كل من تريد تجريده من حريته إخوانياً أو متعاوناً، أو متصلاً بالإخوان.
على الناحية الأخرى، يقدّم أصحاب توكيلات التوبة ومتعهدو صكوك الغفران الخدمة ذاتها للسلطة، من خلال إعلان الفرح باعتقال خصومهم، وطرح عبواتٍ ونوعياتٍ جديدة من منتجات الشماتة والتشفي، وكأنهم يصيغون برقيات الشكر للمستبد، على شفاء صدور القوم بتصعيد الإجراءات الوحشية ضد خصوهم، ويطلبون المزيد.
هؤلاء، ومن حيث لا يدرون، يضعون رؤوسهم على المقصلة، ويبرّرون للسلطة أن تنهشهم، فإذا كانت تفعل ذلك مع خصومهم الأشداء، بتهمة التواصل معهم، فلماذا لا تفعلها معهم شخصياً، وبتوحشٍ أشد؟.
وسط هذه الأجواء الرائعة، من البطش والفزع والتشفّي، يتحلل المجتمع ذاتياً، فتقدّم روابط مشجعي فرق الكرة على حل نفسها، في مشاهد تشبه انتحار الدببة على الشواطئ البعيدة، أولتراس النادي الأهلي، ثم أولتراس الزمالك، ومعهما وقبلهما أحزابٌ قديمةٌ تتفكك وتتخلخل، وتنسف أرضياتها وحوائطها، وتضع على وجهها مساحيق عسكريةً، وشخصياتٍ عامةً تعلن اعتزال السياسة والعمل العام، ظناً منها أن في الاختباء في الظل نجاةً من الغول.
غير أن الغول ماضٍ في طريقه، يلتهم كل ما في طريقه، ليس لأنه يمثل خطراً أو تهديداً له، وإنما لأنه، كما قلت قبل أيام، دخل مرحلة الانتقام الممتع، وكأنه يقتل الملل باصطياد فريسةٍ كل يوم، يمارس عليها طغيانه واستكباره، ويمعن في التنكيل بكل من شارك أو شجّع أو أيد تلك الخطيئة الكبرى التي تسمى ثورة الخامس والعشرين من يناير، مستهدفاً محوها من الذاكرة، وتجلياتها الحية على أرض الواقع.
وليست المسألة قمعاً استباقياً لإجراءات اقتصادية جديدة، تثقل كاهل المصريين برفع الدعم عن مزيدٍ من السلع الرئيسية، فالنظام بات يسلك، وكأنه مطمئن تماماً لحجم ردود الأفعال ومستواها على سياساته الوحشية، وصار مدركاً أنه وصل بالناس إلى درجة الخوف من التعبير عن الألم والقهر، ومن ثم لا يمارس البطش بالمعروفين، لأنهم قادرون على تحريك المجهولين، بل يفعل ذلك من باب تصفية الحسابات القديمة، الممتدة من إرهاصات الفعل الجماهيري، قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير وخلالها وبعدها.
هنا لم يعد تقديس جريمة يونيو 2013 ولعن الإخوان، بمناسبةٍ ومن دون مناسبة، يكفيان طوق نجاةٍ من المذبحة، فقد مضت مرحلة "الانتقام على الأخونة"، وبدأت مرحلة العقاب على ثورة يناير.
وبمواجهة كارثةٍ من هذا الحجم، لا عاصم من الفناء إلا قيم "يناير" وروحها. وعلى ذلك، لا يفهم من حفلات التناوش والتشفي إلا أنها بمثابة دعوة للباطش كي يضاعف كميات بطشه.. أو كأنها دعوة إلى إعلان رابطة الشعب المصري حل نفسها، إذ لا تفعل سوى التهام كل احتمالات الوصول إلى مجتمعٍ يتمتع بالحد الأدنى من القيم الإنسانية، بعد أن فقد كل أدوات المقاومة، ولم يعد لديه سوى ظلال مقاومةٍ روحيةٍ للظلم والطغيان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق