الأربعاء، 8 يناير 2020

لكل حكاية أيلول

لكل حكاية أيلول
محمد صالح
 حاصل على بكالوريوس في اللسانيات وماجستير في الترجمة 
ولقب فصيح العرب في برنامج "فصاحة"
10/9/2016
كنتُ أراه كلّ يوم، أعرفُ تفاصيلَ وجهه الذي ينضح فقرا ورضى. عند زاوية المقبرة كنا نقف وبيد كل واحد قدح من الشاي الأسود. ننظر إلى القبور من جهة وإلى قمة الجبل من الجانب الآخر، وكأنّ السماء في هذا المربع القروي الصغير تتلو على الغيم كل صباح قصة البداية والنهاية.

لم يكن يكسر صمتنا إلا ردّ السلام على المارّة. كان في الذهن متسع لأسماء العابرين وعناوينهم. لكني لم أكن أجيد حفظ أسماء الأزقة والساحات. لكل شارع، لا بُدّ، حكاية تتجاوز تاريخ البعث ومسمياته وتفوق بحجمها أبناء الرئيس وأسماءهم ورتبهم وما ألحقوه بهم من ألقاب. وقد قال طلال الرشيد رحمه الله يوما (يا صغيّر ما يكبّرني لقب).

قلت له يوما إن الناس يشبهون بيوتهم وحاراتهم فتهكم سائلا عن صفات جار القبور. سألته مازحا عما إذا كان يريد الانتقال للسكن بجوارنا حتى يكون أقرب إلى المقبرة ويُسهّل على نفسه الانتقال الأخير الذي يوشك أن يحل به، فضحك دون أن ينطق. عانقني بشدّة. وذرف دمعة خجولة سرعان ما بددتها ابتسامته.

لكل شارع حكاية تتجاوز تاريخ البعث ومسمياته، وتفوق بحجمها أبناء الرئيس وأسماءهم ورتبهم.
أخذ رشفة من الشاي، استجمع معها نفسه من جديد، وطلب مني أن أكتب قصيدة لأيلول، شرطَ ألا أكتب بعدها أيّ شيء لهذا الشهر الذي ولدنا فيه نحن الاثنان. كان يسميه شهر البدايات، بداية المطر والبرد وموسم المدارس، وموسم إعادة السجاد والمدافئ. هو موسم الرحيل أيضا، فيه جاء القتلة ليلا وأخذوا اثنتين وسبعين روحا كان أولاده الخمسة بينهم.
الزيزفون أماتَ ذاكرتي بما أحياها
أيلول يا غرقَ الحقيقة حين تبلغ فاها
أيلول يا وجع القصيدة من حروف العلة
ووسادة الدمع العتيق مكابرا تيّاها

لم أسأله لماذا لا أكتب مرة أخرى، ونويت ألا أطيع هذه الوصية، ماذا لو مات في أيلول وأردتُ رثاءه؟ لكنني كنت أشعر أننا في كل يوم نرتكب عملا أخيرا على أية حال. تتربص بنا عقارب الساعة وتخفي ضحكة شامتة عندما نلقي السلام على رجل سيموت قبل أن نسلم عليه مرة ثانية، عندما نعقد رباط حذاء طفل لن يكون طفلا عندما نلتقيه في المرة القادمة، عندما نمشي في جنازة عابرة ونوسّد صاحبها التراب لنغلق عليه قبره.

لا أعلم متى رأيته آخر مرة، متى بدأت الأيام تجمع نفسها لتبني بيننا جبلا جليديا شامتا بكل ما غاب عني من تفاصيل كهولته التي انقلبت إلى شيخوخة وادعة وشعلة من العطاء أبت الأقدار أن تطفئها في غير أيلول.


لكل حكاية أيلول
يمطرها ويرويها
ويلهمنا اعتناق الصمت
حين نكون أدركْنا
لنشعل هجدةَ المصباح في غدنا
وتبتلّ الزنابق عند هذا الآن
ذات بكاء
ونسجدَ سجدةَ استسقاء
وندركَ أنّ أمطارَ المدينة رهنُ ما نخفي
لكل مدينة أيلول
يعرف كلّ حاضرها
وماضيها
ويجري في سواقيها
إلى المنفى
لبحر الروم
للثلج المقيم على حدود الخوف والأحلام
يملأ أهلها عطشا ويسقيها



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق