العالم ما بعد سيادة الإنسان الإله
(وبعدما نَحّت المعرفة الله جانباً، فإنها أصبحت تمتلك سلطانه نفسه غير المتناهي... وبمقابلة ذلك مع النظرة الإسلامية للطبيعة، يقول الفلكي النيسابوري: الفهم الدقيق والقائم على العلم للطبيعة حريٌ بأن يزيد من تقدير دور الله في الخلق والطبيعة).. (وفي مقولة روبرت بويل: الإنسان قد خُلق لكي يمتلك الطبيعة ويحكمها، فبويل يعني هنا الإنسان الأوروبي، فغير الأوروبي في نظره ونظر جون لوك لم ينتسب إلى فئة البشر مطلقاً). "قصور الاستشراق، وائل حلاق".
يتناول أحد أقسام كتاب وائل حلّاق "قصور الاستشراق" قضية غاية في الأهمية، لحاضر العالم ومستقبل البشرية. والمنطلق هنا أن ما يجري من سياسات أو واقع اجتماعي لصراعات متعدّدة بين الأمم، وصراعات داخلها بين الطبقات، جاء بعد اكتمال تأثير ثقافة التنوير الغربي، على الأقل، كثقافة تسود التوجهات الأكاديمية وتتصدّر التأثير الدولي، وهي الفلسفة التي ينتمي إليها عالم الغرب الحديث.
ويندرج هذا البحث في مراجعات وائل حلّاق تحت مفهوم سيادة الإنسان الإله، فنقد التحكم في الطبيعة أو توجيهها أو إعادة تصنيعها لصالح البشرية ليس مقصوداً به التعامل مع سنن الكون، وجعل التقدم العلمي مساراً حيوياً لاستثمار الأرض لصالح الإنسان، وإنما فهم حصيلة التغوّل في تقديس العقل، وتحوّله إلى تأليه للإنسان.
ومن المهم هنا الإشارة إلى دوافع بعض الفلاسفة من تاريخ الحياة الكنسية، كمفهوم تمرّد أو محاكاة، فكلاهما، بحسب هذا الحوار المهم، بين الفريقين، الرافض أي بقاء لروح الكنيسة أو أخلاقيات التدين، أو المستند إلى بعض آثارها، قد تأثر بصراع الدين في القرون الوسطى، بعد سيادة ذلك الدين القمعي. ولذلك تحولت الفلسفة الغربية المعاصرة، تدريجياً، نحو منح الإنسان قدرات الإله، للهروب من قضية الروح.
وتبدو هنا أهمية بالغة لمشاعر الصراع والرفض، أو المحاكاة الكنسية التي تستتر برداء التنوير، كما يقول خصومها، لكون الفكرة الدينية المسيحية وارث صراعها يؤثر على خطاب النفس ووجدان العقل، وهذا ينطبق أيضاً على التيار الآخر. ومختصر القول هنا هو دلالة هذا النزوع الصراعي، في تحرير الفلسفة الغربية المعاصرة، وأن هذه الروح المأزومة بهذا الجدل تقع تحت هذا التأثر، وليس الاستقلال المعرفي المطلق.
وبالتوقف عند بعض نصوص فلاسفة التنوير، تجد لدى بعضهم قلقاً من عواقب هذا التأليه للإنسان، وكأنما أُطلقت هذه النظريات، ثم فقد الغرب الفلسفي السيطرة عليها، وهي من الدلائل المتعدّدة التي يحرص على تأكيدها وائل حلاق، عن هيمنة فكرة الإنسان الغربي على تاريخ
وإذا افترضنا أن هناك بالفعل فقدانا لتطور النظرية الغربية، وأن العالم اليوم يسبح في قوانين لا تقف عند أي ضابط أخلاقي، ولا مصالح القيم وفرص العدالة الاجتماعية، التي تنشر السعادة على البشرية وتحفظ كينونة ود المجتمع، وتطور الرعاية الصحية، وتدعم تضامن الأسرة في كل العالم، وتدفع إلى التوزيع العادل للثروة، أو على الأقل كفّ القوة المتمكّنة، في أي دولةٍ عن ظلم الضعفاء، فذلك كله مفقودٌ في العالم الجديد، فهنا مسألة مهمة للغاية في أهمية مراجعة النظرية العالمية الأكثر تأثيراً على الناس، فهي لا تزال مسيطرة، وكما نكرّر دوماً عما نعنيه في هذه المراجعات، وهو فرز الصالح البشري والنجاح الحضاري عن المآسي، أو المآلات الثقافية التي سببتها هذه النظرية الغربية للعالم.
لقد تم بالفعل إخضاع العالم للإنسان الإله، وهذا الإنسان الإله تطوّرت قوته على البشرية بناءً على كون العقل المادي، لا الوجداني، هو المحدّد الأوحد لتقدير الخير والشر، ثم صنعت منظومة أخلاق بناءً على ذلك، بعد قتل ودفن كل قيم روحية وصلت إليها الأسرة البشرية، ولكن أي عقل يقصد؟ فوعي العقل في تأملات المعرفة لا يقف في حراكه، وتعاطيه من الحياة وحركة الكون وقراءة إرث الأولين، عند هذا التصنيم الجديد الذي نزع العالم من سماء الخالق الرحيم والعادل الذي شرع الخير وندب العالم إليه، وسلّمه إلى ندٍّ بشري تحولت السيادة لديه، ثم قَهَر حرية المعرفة والبحث عن الأفضل للعالم الإنساني.
ندرك أن هناك حركة جدل ونقد في المؤسسات الأكاديمية، ولكن واقع العالم لا يزال ينهار، فكيف تحوّل مفهوم الدولة المدنية اليوم إلى وعاء للتطرّف في النموذج الهندي، ينزع إلى
عنصريةٍ دمويةٍ وسياسية، كيف أضحت بطلة السلام في ميانمار، أون سان سو تشي، إلى شريكة إبادة ساهمت فيها سياسيا وتنفيذيا ضد الأبرياء الروهينغا، ونحن اليوم أمام سؤالٍ حقيقي بالفعل: لماذا يتجه هذا العالم الجديد إلى تركيز حصاره على المسلمين؟ من المسؤول عن إقرار القوانين الأممية بعد الحرب العالمية الثانية، وحصيلتها على العالم، وكيف تَسقط اليوم علاقات الشرق ببعضه بعضا، وهذا لا يلغي المسؤولية الكبرى على أمم الشرق نفسه والمسلمين فيه، لكن آلة الدفع السياسية الكبرى لا تزال بيد قوة العالم الجديد التي سوّدت إنسان الغرب في صورة إله بالفعل. جعلته يخنق قيم الأخلاق الوجدانية في كل شيء، لكونها من إرث البشرية التي كانت الروح والأخلاق ذات حضور فيه، ولأن الناس يخاطبون الخالق في وجدانهم، وبالتالي يتبقى شيءٌ من مراعاة الضمير الأخلاقي الذي يخشى الله الحقيقي، وليس الإله الإنسان وعقيدته المادية المختلفة. إننا اليوم أمام صورة متناقضة للغاية، فمع حركة تسليع الناس السوق وفرض الجندر بديلا عن المرأة والرجل، وإسقاط وعاء الطفولة واللذة المشروعة، باسم عقل الإنسان الإله، نجد أن العنصرية اليمينية والروح التبشيرية متطورتان في عالم الغرب الذي قدّم ذلك الإنسان الإله للعالم، فيما نزعات التطريف الغربي تعتمد التاريخ والهوية الدينية والاجتماعية. وفي المقابل، تزعم، عبر المؤسسات الدولية، تبني معيار حقوق الإنسان المطلق، ثم توضع كل الموازين تحت التطفيف، فهل أنقذ هذا الإله الإنسان العالم، أم أنه يدفعه إلى الهلاك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق