السبت، 24 يونيو 2023

نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (٦)

 نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (٦)

د. حاكم المطيري 

﴿وَمِنهُم مَن يَستَمِعُ إِلَيكَ حَتّى إِذا خَرَجوا مِن عِندِكَ قالوا لِلَّذينَ أوتُوا العِلمَ ماذا قالَ آنِفًا أُولئِكَ الَّذينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلوبِهِم وَاتَّبَعوا أَهواءَهُم ۝ وَالَّذينَ اهتَدَوا زادَهُم هُدًى وَآتاهُم تَقواهُم ۝ فَهَل يَنظُرونَ إِلَّا السّاعَةَ أَن تَأتِيَهُم بَغتَةً فَقَد جاءَ أَشراطُها فَأَنّى لَهُم إِذا جاءَتهُم ذِكراهُم﴾ [محمد: ١٦-١٨].

ذكرت السورة في ما سبق من آياتها الذين كفروا بعمومهم والمقصود بهم أصلا كفار مكة ابتداءً، ومن تبعهم عامة، ثم خصت فريقا من هؤلاء الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله بالذكر في هذه الآيات ﴿ومنهم مَن يستمع إليك﴾ وهم المنافقون في المدينة الذين يحضرون مجلس النبي  في مسجده، ويستمعون مواعظه وتعليمه، مع إبطانهم عداوته وكفرهم به وصدهم عن دينه وسبيله.

وقال: ﴿ومنهم﴾ يعني من الذين كفروا بمحمد  فأضلّ الله أعمالهم هؤلاء المنافقون، ولم يصرّح بذكرهم تحقيرا لشأنهم، واستخفافا بهم، ومعاملة لهم بنظير فعلهم، حين أخفوا كفرهم وأبطنوه، ولم يظهروا عدواتهم كما أظهرها كفار قريش، فناسب ذكرهم هنا تعريضا لا تصريحا.

والمنافقون من الكفار بنص القرآن، بل هم ﴿في الدرك الأسفل من النار﴾ [النساء:١٤٥] لشدة خطورتهم، فهم مسلمون ظاهرا، كفار حقيقة وباطنا، ولهذا عاملهم الإسلام على حالتيهم، فأجرى عليهم أحكام الإسلام ظاهريا كما تظاهروا به، وأحكام الكفر باللعن والخلود في النار، كما استسروا به وأبطنوه.

ولشدة خطورة المنافقين ستأتي أكثر آيات السورة في بيان حالهم، وكشف أستارهم، وأولها حال استماعهم إلى لنبي  بقلوب فارغة لاهية، وعقول خاوية، فإذا خرجوا من عنده قالوا للصحابة -الذين أوتوا العلم بحضورهم مجلس النبي  والتعلم منه أحكام دينهم- ماذا قال قبل قليل؟

وقد صوّر القرآن نفاقهم وكفرهم في هذه الحال، بأبلغ وصف في هذا السؤال، حيث لم يذكروا فيه اسم النبي  ولا صفته وهي النبوة والرسالة، بل ذكروه بضمير الغائب، فقالوا (ماذا قال؟) لشدة عدواتهم له ﷺ، واستنكافهم عن الشهادة له بالنبوة، فصيغة السؤال في حد ذاتها دليل على نفاقهم، وفساد قلوبهم، وعدم إجلالهم لمقام النبوة الكريم، وأما حقيقة السؤال ومضمونه: فإما أنهم لا يسمعون أصلا كلام النبي  حين يحضرون مجلسه؛ لعدم اهتمامهم به؛ لأنهم لا يحضرون للاستماع والتعلم والتفقه في دينهم، بل يحضرون نفاقا وترصدا وتربصا بالمؤمنين، ونقل أخبارهم للكافرين من اليهود في المدينة والمشركين. أو أنهم يسمعون كلامه  ويحول الله بينهم وبين فهمه؛ لعدم استعدادهم لذلك ﴿أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم﴾، وهذا أدلّ على كفرهم وعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، كما قال تعالى عن الحجاب الذي جعله على قلوب الكافرين حين سماعهم القرآن فلا ينفذ إليها، ولا يؤثر فيها: ﴿وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا﴾ [الإسراء: ٤٥-٤٦].

وكما وصفت الآية المنافقين باتباع الأهواء، والطبع على القلوب، وعدم العلم والعقل، وعدم الاستفادة من استماع كلام النبي ؛ ذكرت حال المؤمنين من الصحابة الذين يستمعون إلى النبي ﷺ ويحضرون مجلسه، ووصفتهم بأشرف الصفات وهي صفة العلم والهداية والتقوى، فهم الذين ﴿أُوتوا العلم .. والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم﴾، وهذه شهادة من الله لهم بالعلم بالكتاب، والاهتداء في الدين، والفقه عن الله ورسوله ، والتقوى لله بالعمل الصالح.

والذي علمهم وفقههم وزكاهم هو الله ورسوله  الذي بعثه الله إليهم ليهديهم ﴿ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم﴾[البقرة:١٢٩]، وفي هذا رد على هؤلاء المنافقين الذين لم يستفيدوا من الاستماع إلى النبي ، بينما استفاد منه المؤمنون لاستعدادهم لذلك؛ ولهذا أوجب الله على من جاء بعدهم اتباعهم، فيما أجمعوا عليه، وعدم الخروج عن مجموع أقوالهم فيما اختلفوا فيه من أمر الدين والفقه في أحكامه؛ لأن الحق لا يخرج عنهم.

وقول الله عن المؤمنين من أصحاب النبي  ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم﴾ تزكية لهم من الله توجب على من جاء بعدهم حبهم واتباعهم ولزوم سبيلهم؛ إذ هم المتقون المهتدون الذين على كانوا على الصراط المستقيم الذي أمر الله المؤمنين جميعا بلزومه واتباع أهله غير المغضوب عليهم ولا الضالين كما في سورة الفاتحة: ﴿اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ [الفاتحة: ٦-٧] وهم الذين عينهم الله وبين حالهم في أول سورة البقرة في قوله: ﴿والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون﴾ [البقرة: ٤-٥].

وقوله: ﴿اهتدوا﴾ فيه إثبات أن فعل الاهتداء صدر عنهم باجتهادهم وجهادهم وإرادتهم له، فكان الجزاء من الله أنه ﴿زادهم هدى وآتاهم تقواهم﴾، وجمع لهم بين الهداية والاهتداء لمعرفة الحق والصراط المستقيم، والتقوى والعمل الصالح أثر هذا الاهتداء والعلم في النفس والسلوك والعمل بفعل الطاعات واتقاء المحرمات، وهي غاية العلم وثمرته.

وهذا الثناء الإلهي على الصحابة رضي الله عنهم في العلم والتقوى، دليل على أن كل قول أو فعل أو سلوك أو حال ديني أو سياسي لا يعرفه الصحابة؛ فليس من الدين، ولا الإسلام، ولا من هدى الله، ولا سبيل المؤمنين، ولا الصراط المستقيم؛ ولهذا لم يأت بعدهم من هو أهدى سبيلا منهم إلى يوم القيامة، وقد توعد الله من خالف سبيلهم بقوله: ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾ [النساء:١١٥].

فسبيل المؤمنين من الصحابة هو الإسلام والصراط المستقيم، وقد نصرهم الله نصرا لم يحدث مثله في تاريخ الأمم، وكان نصر الله لهم بعد وفاة النبي  كنصرهم في حياته، وفتح لهم من الفتوح ما لم يحدث مثله في حياة النبي ، فدلّ على أنهم هم المقصودون بالثناء بالعلم والتقوى والوعد بالنصر.

ثم هددت السورة الكافرين والمنافقين بالاستفهام الإنكاري ﴿فهل ينظرون إلا الساعة﴾ والمعنى ألم يكف هؤلاء ما جاءهم النبي  به من الآيات، وما تحقق فيهم من النبوءات التي أنذرهم بها، وحذرهم منها ليؤمنوا به ويتبعوه، حتى لم يبق إلا الساعة ويوم القيامة، فإن كان كذلك ﴿فقد جاء أشراطها﴾ وأول هذه الأشراط والأمارات بعثة النبي  كما قال : (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده)، وقال: (بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه)، فهو ﷺ من أشراطها؛ لأنه آخر رسول إلى العالم.

فإن كان هذا حالهم مع ما يرونه من أشراط الساعة وأمارتها فلم يؤمنوا بها، ولم يهتدوا إلى صراط الله، وهم في هذه الحياة، وحال التكليف والقدرة على النجاة ﴿فأنى لهم إذا جاءتهم﴾ الساعة ﴿ذكراهم﴾ وتذكرهم! كيف يكون ذلك؟ فهذا مستحيل الوقوع، ممتنع الحدوث، فإنه بالموت ينقطع العمل، وبقيام الساعة ينتهي التكليف والاختبار، في هذه الدار، فإما الجنة أو النار.


نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (1)


نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (٥)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق