نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (٥)
– ﴿وَكَأَيِّن مِن قَريَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِن قَريَتِكَ الَّتي أَخرَجَتكَ أَهلَكناهُم فَلا ناصِرَ لَهُم أَفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعوا أَهواءَهُم مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ المُتَّقونَ فيها أَنهارٌ مِن ماءٍ غَيرِ آسِنٍ وَأَنهارٌ مِن لَبَنٍ لَم يَتَغَيَّر طَعمُهُ وَأَنهارٌ مِن خَمرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبينَ وَأَنهارٌ مِن عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُم فيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغفِرَةٌ مِن رَبِّهِم كَمَن هُوَ خالِدٌ فِي النّارِ وَسُقوا ماءً حَميمًا فَقَطَّعَ أَمعاءَهُم﴾
[محمد: ١٣-١٥]
لما أمرهم الله بالسير في الأرض والاعتبار بما حلّ من العذاب بالأمم قبلهم، والقرى البائدة حولهم، وكان الوعيد في أول السورة للكفار عموما؛ خصّ أهل مكة بالذكر حتى لا تذهب ظنونهم بهم إلى أن لهم من الحرمة في مكة وفي البيت الحرام ما يحول دون عذابهم كالأمم الأخرى.
﴿وكأيّن﴾ بمعنى كم الخبرية تفيد كثرة العدد، وعدم حصره كثرةً، وأنه كم من قرى كثيرة لا عد لها كانت أشد قوة من أهل مكة كعاد وثمود ومدين أخذهم الله فلم يجدوا من يمنعهم أو ينصرهم من بأس الله، وقد أطلق هنا القرية وهي مجمع الناس ومحل إقامتهم، وأراد الناس أنفسهم، وهذا من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فالأصل أن يقال (أهل قريتك) فهم الذين يقع منهم الفعل، وحُذف للعلم به اختصارا، ولإفادة الحذف هنا العموم لكل من شارك في الإخراج في القرية أو رضي به، وهو من أساليب البلاغة.
وقال: ﴿أخرجتك﴾ مع أن أهل القرية لم يريدوا كلهم إخراجه بل أراده الملأ منهم وأكابر مجرميهم، فكأنهم هم القرية كلها لنفوذ أمرهم وكلمتهم فيها، وليعم الذم كل من تابعهم أو كان قادرا على منعهم ولم يفعل، فكأنهم جميعا تواطأوا على إخراجه حين تخلّوا عن نصرته وحمايته.
وقد سمّى الله عداوتهم للنبي ﷺ وإيذاءهم واستفزازهم له إخراجا، مع أن النبي ﷺ خرج مهاجرا بأمر الله، ولم يخرجه أهل مكة، فقد كان في منعة من قومه، بل كانوا يريدون منعه من الخروج وقتله، أو حبسه، فسمّى أسباب الخروج ودواعيه وهو استفزازهم له إخراجا، كما قال ﴿وإن كادوا ليستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلّا قليلا﴾ [الإسراء: ٧٦].
وهذا كقوله ﷺ حين خرج من مكة مهاجرا: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت).
وقد عدّ الله الإخراج من الأرض ظلما وعدونا فتنة في الدين أشد من قتل النفس، وهو موجب للجهاد في سبيل الله، كما قال تعالى: ﴿إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدّين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظّالمون﴾ [الممتحنة: ٩].
وقال: ﴿واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين﴾ [البقرة: ١٩١].
وقد شرع الله الجهاد وقتال من أخرج المسلمين من أرضهم أو ظاهر وأعان على إخراجهم ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلّا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز﴾[الحج: ٣٩-٤٠].
وهذه الأحكام عامة لا فرق فيها بين العدو الخارجي الأجنبي الغازي، أو العدو الداخلي الجائر الظالم، فمن أخرج المؤمنين من أرضهم؛ فقد شرع لهم جهاده والدفع عن ديارهم، حتى وإن كانت السلطة الوطنية نفسها، فقد شرع الجهاد أصلا في الصورة الثانية وهي وقوع العدوان والإخراج من مشركي مكة على مسلميها من أهلها، وهو عدوان داخلي، فقصر الجهاد وأحكامه على الغازي الأجنبي، دون الطاغوت الوطني ثقافة قومية علمانية، تتناقض من الحقائق القرآنية، فالصراع بين الإسلام والجاهلية بدأ أصلا في مكة وبين أهلها من المؤمنين والمشركين، قبل أن يمتد إلى سائر العرب، ثم باقي الأمم.
وقوله: ﴿أهلكناهم فلا ناصر لهم﴾ تأكيد وتفسير لمعنى الآية قبلها ﴿وأن الكافرين لا مولى لهم﴾ ينصرهم، والنكرة هنا ﴿ناصر﴾ جاءت في سياق النفي بعد اللام النافية للجنس، فأفادت العموم، ونفى وجود أي ناصر لهم قد يتوهمونه أو يظنونه.
ثم جاء التعليل -بصيغة الاستفهام- لهذه الأحكام التي خصّ الله بها كل فريق؛ لبيان أنها عدل مطلق، جازى الله كل فريق بما هو أهله، وبما يستحقه، فقال: ﴿أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم﴾، ولا شك بأن المؤمنين الذين على بينة وهداية من ربهم -بإيمانهم به وبرسله وكتبه اهتدوا بها إلى سبيله ومرضاته وجناته- ليسوا كالمشركين الذين اتبعوا أهواءهم فأضلّ أعمالهم، وأصمّهم، وأعمى أبصارهم، وجاء به على سبيل الاستفهام؛ ليكون جوابهم حجة عليهم.
وقد قرن بين ﴿زين له سوء عمله﴾ و﴿اتبعوا أهواءهم﴾؛ لبيان أن هوى النفوس واتباعها يضل الإنسان، كما يزين له الشيطان أعمال السوء، حتى يستحسن الإنسان ما كان قبيحا حسا وطبعا كالفواحش والظلم والعدوان، ولهذا كلما انصرف الإنسان عن الشيء وانقطع هواه عنه رآه على حقيقته، وإنما حال دون ذلك وحجبه هوى النفس وما تحبه وتهواه، كما قال الشاعر:
غطّى هواك وما ألقى على بصري.
وقد ذمّ القرآن اتّباع الإنسان هواه، وعدّه تأليها وعبادة له من دون الله ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾[الجاثية:٢٣] وإنما صار إلها له باتباعه شهوات نفسه ورغباتها مهما كانت محرمة، فصار هواه معبوده من دون الله؛ ولهذا كان طريق الجنة على خلاف هوى النفس ﴿وأمّا من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى﴾ [النازعات: ٤٠- ٤١].
وكما نهى الله عن اتباع خطوات الشيطان ﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾، نهى عن اتباع أهواء النفوس ﴿إن النفس لأمارة بالسوء﴾[يوسف:٥٣].
وجاء بلفظ الجمع في الأهواء هنا للدلالة على كثرتها فأهواء النفس لا حصر لها، ولا تشبع النفوس من شهواتها ورغباتها، ولهذا جاءت الشرائع السماوية لكبح جماحها، وضبطها نزواتها بالأحكام التي تحد من طغيانها، وقد جاء في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) وهو معنى الآية ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾[آل عمران:٣١].
وكما فرق الله في البداية بين سبيل المؤمنين الذين هم على بينة من ربهم بالإيمان به وطاعته واتباع رسوله، وسبيل الكافرين الذين زين لهم الشيطان أعمالهم، واتبعوا أهواءهم، كذلك ذكر الفرق في نهاية كل سبيل، فنهاية المؤمنين: الخلود في نعيم الجنة وأنهارها ففيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، ونهاية الكافرين: الخلود في عذاب الجحيم، وماء الحميم، وطعام من غسلين.
وكل ذلك على سبيل التمثيل ﴿مثل الجنة﴾ إذ لا يعلم حقيقة ما فيها من نعيم إلا الله، وليس بين المثل والأصل إلا الأسماء، وإلا فحقائق عالم الغيب فوق إدراك الإنسان وقدراته الأرضية المحدودة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق