يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيثَبِّت أَقدامَكُم وَالَّذينَ كَفَروا فَتَعسًا لَهُم وَأَضَلَّ أَعمالَهُم ذلِكَ بِأَنَّهُم كَرِهوا ما أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحبَطَ أَعمالَهُم﴾ [محمد: ٧-٩]
بعد أن أمر الله المؤمنين بالجهاد في سبيله، وقتال أعدائه، اشترط عليهم وشرط لهم:
فقال إن تنصروا الله -بالإيمان به، والقيام بأمره، وطاعته، والإيمان برسوله، وجهاد من كفروا به وصدوا عن سبيله- ينصركم بالظهور على عدوكم، وبالاستخلاف لكم، ويثبت إقدامكم،
فلا تزل عن الحق الذي جاءكم، ولا تزول قوتكم ودولتكم، ولا تضعف شوكتكم وصولتكم، وهذا ما تحقق لهم على أكمل وجه،
فلا يعرف في تاريخ العالم أنه حدث لأمة من الأمم ما تحقق للمؤمنين بمحمد ﷺ من النصر على عدوهم، وظهور أمرهم،
والاستخلاف في الأرض لهم، مع قلة عددهم، وضعف عتادهم وعُددهم، ودوام ذلك فيهم،
حتى ورثوا إمبراطورية كسرى وقيصر في مدة عشر سنين من وفاة النبي ﷺ،
وإذا الخلافة الراشدة في عهد عمر تمتد على ثلاث قارات العالم القديم،
فليس للقدرة البشرية إمكان تحقيق ذلك مهما أوتيت من قوة، بل هذا وعد الله وأمره، وفعله النافذ في خلقه بقدره.
وتثبيت الأقدام كناية عن ثباتهم في الحرب، فلا تهزم لهم راية، ولا يثبت أمامهم عدو، وهو من دلائل النبوة ومعجزاتها الخبرية، فتحقق وعد الله وما شرطه لهم،
فدل على أنهم وفوا بالشرط، وتحقق منهم الإيمان والعمل الصالح والنصر لله ولرسوله، وأنهم ﴿خير أمة أخرجت للناس﴾
[آل عمران:١١٠]
وأنهم الأمة المنصورة الموعودة في التوراة والإنجيل بأن ترث الأرض
﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾
[الأنبياء:١٠٥].
وهذه من فضائل الصحابة، والتابعين لهم، وتابعيهم في عصور الفتح الإسلامي، كما تواتر عن النبي ﷺ:
(خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)،
وفي الصحيحين أيضا:
(ثم الذين يلونهم)،
وفيهما أيضا: (يأتي زمان يغزو فئام من الناس، فيقال: فيكم من صحب النبي ﷺ؟
فيقال: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي زمان، فيقال: فيكم من صحب أصحاب النبي ﷺ؟ فيقال: نعم، فيفتح لهم،
ثم يأتي زمان فيقال:
فيكم من صحب صاحب أصحاب النبي ﷺ؟ فيقال: نعم، فيفتح لهم).
وهذا الوعد بالتثبيت والنصر قائم لمن بعدهم من المؤمنين في كل عصر، فما زال المسلمون في كل عصر يجاهدون في سبيل الله جهاد فتح أو جهاد دفع،
فيفتح لهم، ويتحقق لهم النصر، مع قلة عددهم إزاء عدوهم، وعامة فتوحات المسلمين كانت مع قلة عدد.
وكما وعد الله المؤمنين بالنصر والثبات والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، توعد الكافرين بالشقاء والخسار فقال: ﴿والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم﴾،
وتعس خرّ وسقط وهلك وخسر وخاب، فقابل ثبات المؤمنين بسقوط الكافرين، ولم يقل تعسوا بالجملة الفعلية،
بل قال ﴿فتعسا لهم﴾ بالأسمية التي تفيد الدوام والثبوت والاستقرار، فلا تنفك عنهم هذه التعاسة والخسارة،
وهي نقيض الحياة الطيبة، وجاء بصيغة الدعاء تعسا لهم، مثل تبا لهم، لما فيه من التأكيد بتحقق ذلك عليهم.
وجاء بالفاء ﴿فتعسا﴾ التي تفيد الترتيب لما فيها من معنى الشرط والتعليل، فكأنه قال كفروا فتعسوا، ومن كفر فقد تعس،
فالتعاسة لازمة لهم نتيجة كفرهم بالله، ولا ينافي هذا وقوع بعض الغلب لهم على المؤمنين أحيانا،
أو بعض الاستمتاع في الدنيا استدراجا واختبارا، فإن هذا متاع الغرور،
ثم عاقبة أمرهم الشقاء والخيبة والخسارة الأبدية يوم القيامة، كما قال تعالى:
﴿كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النّار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلّا متاع الغرور﴾
[آل عمران: ١٨٥].
وكما وعد الله المؤمنين بالثبات والنصر في الدنيا،
وعدهم كذلك بالثبات والنصر يوم القيامة، وفيها يتحقق النصر الحقيقي، كما قال:
﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثّابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظّالمين ويفعل الله ما يشاء﴾
[إبراهيم: ٢٧].
وقال: ﴿إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. يوم لا ينفع الظّالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدّار﴾
[غافر: ٥١-٥٢].
ثم جاء التعليل لهذه العقوبة التي حلت بهم، والتعاسة التي لا تنفك عنهم، حيث أضل الله أعمالهم، وأحبط آمالهم،
فقال: ﴿ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم﴾ فالسبب لذلك كله هو كرههم للحق الذي جاء به النبي محمد ﷺ وهو القرآن والإيمان والإسلام،
وكما أن الإيمان والعمل الصالح نتيجة التصديق والحب لله ولرسوله؛ كذلك الكفر بالله والصد عن سبيله نتيجة الكره والبغض لله ولرسوله ﷺ وكتابه،
ولم يقبل الله من أحد دعوى محبته حتى يحب رسوله محمدا ﷺ ويتبعه ويطيعه، فقال:
﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾
[آل عمران:٣١]،
وفي الصحيح:
(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده، والناس أجمعين، ومن نفسه).
ولا يدخل في هذا الكراهة الطبيعية لما يشق على النفوس من التكاليف، مع الطاعة والامتثال لحكم الله، كما قال تعالى:
﴿كُتب عليكم القتال وهو كره لكم﴾
[البقرة:٢١٦]
فهو مكروه لهم طبعا، لا شرعا، فالنفوس بطبعها لا تحب القتال والموت،
إلا إن ذلك لم يمنع المؤمنين من الجهاد في سبيل الله، والامتثال والطاعة للأمر به،
فهذه ليست كراهة للوحي والشرع الذي نزل بوجوب الجهاد، بل خشية من الشدة والمشقة التي يجدها المجاهد في الحرب.
ولهذا ذمّ الله من حملتهم هذه الكراهة على ترك القتال، فقال:
﴿فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين﴾
[البقرة:٢٤٦]
الذين تولوا ولم يجاهدوا في سبيل الله ولم يمتثلوا أمره.
ومثله كراهة المرأة الطبيعية لوجود زوجة أخرى تشاركها زوجها، لما تجده من مشقة وغيرة،
فهي كراهة معفو عنها، ما لم يصل الأمر إلى الاعتراض على الشرع نفسه،
وكراهة الحكم الذي جاء به -وما أحل الله للرجال من تعدد الزوجات لمصلحة بشرية وحكمة ربانية-
فيكون كفرا وردة، كما قال تعالى:
﴿فلا وربك لا يؤمنون حتّى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت ويسلموا تسليما﴾
[النساء: ٦٥].
وقال: ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا﴾
[الأحزاب: ٣٦].
وقد رتّب على هذه الكراهة لما أنزل الله حبوط العمل بالفاء ﴿فأحبط أعمالهم﴾ فهو تعليل للحكم،
وأنهم كرهوا وحي الله فحبط عملهم، وحبوط الأعمال بطلانها، وانعدامها، وعدم ترتب أثرها عليها، فكل عمل يعمله الكافر يرجو به النجاة أو الفلاح،
فلا أثر له بدون الإيمان بالله وطاعته والاتباع لرسوله ﷺ؛
ولهذا قال النبي ﷺ لحكيم بن حزام حين أسلم وسأله عن أعمال البر والخير التي كان يعملها في الجاهلية:
(أسلمت على ما سلف لك من خير).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق