نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (٧)
﴿فَاعلَم أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاستَغفِر لِذَنبِكَ وَلِلمُؤمِنينَ وَالمُؤمِناتِ وَاللَّهُ يَعلَمُ مُتَقَلَّبَكُم وَمَثواكُم وَيَقولُ الَّذينَ آمَنوا لَولا نُزِّلَت سورَةٌ فَإِذا أُنزِلَت سورَةٌ مُحكَمَةٌ وَذُكِرَ فيهَا القِتالُ رَأَيتَ الَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ يَنظُرونَ إِلَيكَ نَظَرَ المَغشِيِّ عَلَيهِ مِنَ المَوتِ فَأَولى لَهُم طاعَةٌ وَقَولٌ مَعروفٌ فَإِذا عَزَمَ الأَمرُ فَلَو صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيرًا لَهُم﴾
[محمد: ١٩-٢١].
بعد أن ذكرت السورة حال كلا الفريقين:
١- من كفروا بالله، وصدوا عن سبيله، فأضلّ أعمالهم، ومنهم المنافقون الذين طبع الله على قلوبهم، واتبعوا أهواءهم.
٢- ومن آمنوا بالله، وعملوا الصالحات، وآمنوا بمحمد، وآتاهم الله العلم بالكتاب، وزادهم هدى، وآتاهم تقواهم.
وذكرت مآل كلا الفريقين يوم القيامة إلى الجنة أو النار، وحذرت من اقتراب الساعة بوقوع أشراطها، وأولها بعثة محمد ﷺ فهو أول أماراتها التي توجب يقظة العقول من سكرتها، والنفوس من غفلتها.
بعده جاءت هذه الآية بالأمر العظيم الذي افترق الناس بسببه إلى مؤمنين من أصحاب النعيم، وكافرين من أصحاب الجحيم، وهو توحيد الله والعلم بأنه لا إله حق إلا هو، فلا رب في للوجود ولا خالق غيره، ولا يستحق العبادة أحدا سواه ﴿فاعلم أنه لا إله إلا الله﴾، والمراد بالعلم هنا: علم الشهادة بهذه الحقيقة، تصديقا بالجنان، وإقرارا باللسان، وعملا بالأركان، وهذا العلم وإن كان قد تحقق للنبي ﷺ وللمؤمنين فالقصد من الأمر به الثبات عليه، والجهاد في سبيله، والعمل بمقتضاه، كما قال ﴿يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا﴾[النساء:١٣٦].
والاستغفار في قوله: ﴿واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات﴾ هو عبادة الله وحده لا شريك له بكل ما شرعه لعباده ليغفر به ذنوبهم، ويقبل توبهم، فيكون الاستغفار بالقول وهو سؤال الله المغفرة، ويكون بالأعمال الصالحات، كالصلوات، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وتقوى الله، واتباع النبي ﷺ، وكل عبادة جعلها الله كفارة للسيئات، وزيادة بالحسنات، كما قال تعالى: ﴿وآمنوا به يغفر لكم﴾[الأحقاف:٣١]، وقال سبحانه: ﴿فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم﴾[آل عمران:٣١]، وقال: ﴿إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا.. ويغفر لكم﴾[الأنفال:٢٩]، وقال: ﴿تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله .. يغفر لكم﴾[الصف: ١١- ١٢].
واستغفار النبي ﷺ هو عن كل ما يشغله عن ذكر الله، كما قال ﷺ: (إنه ليغان على قلبي وإني أستغفر في اليوم مئة مرة)، والغين هنا ما يغشى القلب ويشغله، فالنبي ﷺ يستغفر الله عن كل ما يشغل قلبه عن ذكره جل جلاله، مع أنه لا يشغله إلا ما أمره الله به من سياسة أمر المؤمنين، وجهاد الكافرين، كما قال يوم الخندق حين أخر الصلوات بسبب القتال: (شغلونا عن الصلاة والوسطى)، فكان اشتغاله ﷺ بذلك، وانشغاله بالخلق وإصلاحهم، سببا للاستغفار الدائم، وهو من كمال عبوديته ﷺ لربه سبحانه، كما قال حين كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكانت عائشة ترق لحاله ليخفف عن نفسه، فيقول لها: (أفلا أكون عبدا شكورا).
ونسبة الذنب إلى النبي ﷺ في قوله ﷺ: ﴿لذنبك﴾ لا يقتضي وقوعه منه، فالاستغفار وهو العبادات والطاعات كلها يراد منها غفران الذنوب عند وجودها، سواء ما وقع منها قصدا، أو خطأ، وما كان كبيرا، أو صغيرا، وما كان في حق الله، أو حقوق العباد، بحكم الطبيعة البشرية التي جبلت على وقوع ذلك منها، كما في الصحيح: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فاحتاج الإنسان للاستغفار الدائم، وقد عصم الله النبي ﷺ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
واستغفار النبي ﷺ للمؤمنين والمؤمنات من غايات بعثته، ودعوته، ورحمته بالمؤمنين، ومن شفاعته لهم في الدنيا في حياته قبل الآخرة، وقد استجاب الله دعاءه للمؤمنين والمؤمنات، كما قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما﴾ [النساء: ٦٤]، وهو خاص بحياته ﷺ وفي موقف الشفاعة يوم القيامة.
وقد شرع الله استغفار المؤمنين لبعضهم، وأمرهم بالاستغفار لمن سبقهم من المؤمنين ﴿ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان﴾[الحشر:١٠]، وهذا قيد يمنع من دخول غير المؤمنين في الاستغفار، كما في دعاء نوح: ﴿رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات﴾[نوح:٢٨]، ودعاء إبراهيم: ﴿ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب﴾[إبراهيم:٤١]، ولهذا حرم الله الاستغفار للمشركين وأخبر بأن استغفار إبراهيم لأبيه كان قبل أن يتبين له حاله ﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم﴾[التوبة:١١٣]، وقد أخبر الله نبيه ﷺ بأنه لا يقبل استغفاره للمنافقين ﴿إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله﴾[التوبة:٨٠]، فعلل عدم قبول استغفار النبي لهم بأنهم كفروا، وهو معنى قوله تعالى ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾[النساء:٤٨].
فالإيمان بالله ورسوله شرط للاستغفار، ولقبوله؛ لأنه عبادة، فلا يستجاب استغفار المشرك بالله كما لا تقبل عبادته، ولا الكافر بالله ورسوله، ولا المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن كفره به، ويحرم الاستغفار لهم؛ لأنهم ليسوا محلا للاستغفار، ولا أهلا له.
ويدخل في المؤمنين الذين يُستغفر لهم أهل المعاصي منهم الذين ثبت إسلامهم، وأسرفوا على أنفسهم، وهم كل مسلم يُصلى عليه صلاة الجنازة، كما قال ﷺ: (ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، إذا ماتوا على التوحيد والإسلام.
﴿والله يعلم متقلبكم ومثواكم﴾ فلا يخفى عليه شيء من تغير أحوالكم، ولا أعمالكم، ولا مثواكم ومآلكم، وسوف يجازي كلًّا بما عمل، ولا يضيع أجر من أحسن عملا.
ثم بعد الأمر بالتوحيد والاستغفار جاء الأمر بالجهاد وبيان أحكامه وحال من تخلف عنه من المنافقين ﴿ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة﴾ تبين لهم حكم الجهاد بيانا محكما استعجالا منهم بالإذن لهم بالقتال الذي كان محظورا على المؤمنين قبل الهجرة حتى هاجروا إلى المدينة، فنزل الإذن بالقتال بلا إيجاب ﴿أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلموا﴾[الحج:٣٩]، ثم كُتب عليهم ﴿كُتب عليكم القتال وهو كره لكم﴾[البقرة:٢١٦].
﴿فإذا أنزلت سورة محكمة﴾ وهي هذه السورة، والإحكام فيها هو في دلالاتها القطعية على أحكامها، وعدم وجود متشابه يحتمل التأويل في وجوب الجهاد والإلزام به على وجه يزول معه كل شك أو تأويل ﴿وذكر فيها القتال﴾ بالأمر به والحض عليه والتحذير من تركه ﴿رأيت الذين في قلوبهم مرض﴾ وهو النفاق، وعدم التصديق، والشك بالوحي، وبما يأمرهم به النبي ﷺ، وبما بشرهم به من النصر والفتح ﴿ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت﴾ فيكاد يغمى عليهم لشدة هلعهم وخوفهم من القتال والموت، لعدم إيمانهم بما وعد الله المؤمنين المجاهدين في سبيله من الشهادة والحياة البرزخية والأخروية والفوز بالنعيم في الجنة.
﴿فأولى لهم﴾ وهذا على الوقف عليه وعيد للمنافقين وتهديد بأن الويل لهم، أو الموت أولى وأقرب لهم، فلا خير في حياتهم مع نفاقهم وخوفهم وهلعهم، فهم من الخوف من الموت في موت، بينما الجهاد فيه حياة للمجاهدين إن استشهدوا كما قال تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم﴾[آل عمران:١٦٩]، وفيه حياة للمؤمنين جميعا بدفع العدو عنه.
وقد يكون الكلام متصلا بما بعده ﴿فأولى لهم. طاعة وقول معروف﴾، فأولى لهم من الخوف الذي يغشاهم ويكاد يخلع قلوبهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، كما يقول المؤمنون إذا أمرهم الله ورسوله، ﴿فإذا عزم الأمر﴾ على المضي إلى القتال ﴿فلو صدقوا الله﴾ بالإيمان به وطاعته وطاعة رسوله والخروج معه إلى الجهاد في سبيل الله ﴿لكان خيرا﴾ فإما الغنيمة والأجر والنصر، أو الشهادة والفوز بالجنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق