الأحد، 16 أبريل 2023

نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (2)

  نظرات قرآنية في  سورة محمد ﷺ (2)

د. حاكم المطيري

﴿فَإِذا لَقيتُمُ الَّذينَ كَفَروا فَضَربَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثخَنتُموهُم فَشُدُّوا الوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعدُ وَإِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الحَربُ أَوزارَها ذلِكَ وَلَو يَشاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنهُم وَلكِن لِيَبلُوَ بَعضَكُم بِبَعضٍ وَالَّذينَ قُتِلوا في سَبيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعمالَهُم ۝ سَيَهديهِم وَيُصلِحُ بالَهُم ۝ وَيُدخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُم﴾ [محمد: ٤-٦]

بعد أن ذكرت فاتحة السورة حال من كفروا بالله وبما أنزل على محمد؛ أمرت المؤمنين بقتالهم عند اللقاء في الحرب، جزاء عدوانهم وصدهم عن سبيل الله.

والفاء في ﴿فإذا﴾ للتفريع على ما سبق بيانه من الحكم على من كفروا بالله وبمحمد ﷺ، وصدوا عن سبيله فأضل الله أعمالهم، فاستحقوا هذه العقوبة.

و﴿إذا﴾ ظرف زمان فيه معنى الشرط، يفيد تكرر هذا الحكم، وهو وجوب ضرب رقابهم عند كل لقاء ومواجهة لهم في الحرب.

وقال: ﴿فضرب الرقاب﴾ فاستعمل المصدر وأراد الفعل وهو الضرب، وأثره وهو القطع، وكأنه قال فاضربوا رقابهم ضربا واقطعوها قطعا، والمصدر هنا أبلغ في الدلالة على تحقق الحدث وهو الضرب والقطع، لإفادة الاسم الثبوت والاستقرار، فكأن الضرب والقطع قد وقع وثبت بحقهم، وهو ما وقع فعلا بأيدي المؤمنين.

ثم جعل الله غاية ضرب رقاب الكفار في الحرب إلى حد الإثخان ﴿حَتّى إِذا أَثخَنتُموهُم فَشُدُّوا الوَثاقَ﴾، وثخن الشيء ثقل، والمراد هنا إثقالهم بالجراح بالطعن والضرب، وكسر شوكتهم، وفل حدتهم، حتى تذهب خفتهم، وتضعف قوتهم، وتثقل حركتهم، فلا يكون لمن بقي منهم نجاة إلا بالاستئسار وهو المراد بقوله: ﴿فشدوا الوثاق﴾ والشد هنا الربط بقوة وإحكام، والوثاق الحبل الذي يوثق ويربط به بالأسير.

ثم قال: ﴿فإما منا بعد وإما فداء﴾، فخيرت الآية بين الحكمين فقط، فجعل الله حكم الأسير في هذه السورة المنّ عنه وإطلاق سراحه بلا فدية، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين، كتأليف الأسير أو قومه على الإسلام، أو إطلاقه بفدية مالية، أو بدنية كإطلاق أسرى المسلمين لدى الكفار مقابل أسراهم لدى المؤمنين، أو معنوية كتعليم الأسير المسلمين علما من العلوم أو فنا من الفنون.

وبظاهر هذه الآية أخذ عبدالله بن عمر حين أبى أن يقتل أسيره في غزوة بني جذيمة وهي بعد فتح مكة حين أمرهم خالد بن الوليد بذلك، فقال: (والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره)، فقال النبي ﷺ كما في صحيح البخاري: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) ، وهو قول مذهب فقيه العراق في عصره الحسن البصري، وفقيه الحجاز عطاء بن رباح، وذهب الجمهور إلى أن للإمام أيضا القتل والاسترقاق، كما تواتر في السنة، قالوا والاسترقاق داخل في المن، واحتج الجمهور بأن النبي ﷺ تواتر عنه القتل والاسترقاق، وقد يجاب عن مذهب الحسن وعطاء بأن الأصل هو المن أو الفداء، وأما القتل والاسترقاق فهو الاستثناء، خاصة أن كل من قتلهم النبي ﷺ من الأسرى لم يقتلهم للكفر أو للحرب، وإلا لقتل جميع الأسرى والكفار، وإنما قتل من استحق القتل من الأسرى بأسباب توجب ذلك قبل أسرهم، كمن عفى عنه وعاهده ثم غدر، فكل من قتلهم فإنما قتلهم لجرائم توجب قتلهم، لا بمجرد كفرهم أو مشاركتهم في الحرب، فللإمام وقائد الجيش قتل الأسير الذي ثبت بحقه جرائم حرب توجب قتله، وإلا فيحرم قتل الأسير، ولم يثبت بعد هذه السورة وبعد غزوة بني جذيمة أن قُتل أسير بغير جريرة أخرى.

وقوله: ﴿حتى تضع الحرب أوزارها﴾ تعليل للقتال لا غاية له، فجعل الحكمة من القتال -وضرب الرقاب، وشد الوثاق، والإثخان- ردع العدو الكافر، ليتوقف عن عدوانه، ويكف عن طغيانه، فيتحقق السلم بذلك، وأوزار الحرب أسبابها ودواعيها وتبعاتها، والمراد حتى تزول وتقف الحرب نهائيا، ولا يبقى من تبعاتها شيء، يكون سببا في إثارتها مرة أخرى، فالجهاد فيه السلم والأمن، كالقصاص فيه حياة.

ثم ذكر الحكمة من تشريع الجهاد والقتال والشدة فيه، وما يقع فيه من ذهاب نفوس المؤمنين وأموالهم ﴿ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض﴾، فلو أراد لهزم مشركي العرب بالصيحة أو الريح أو الزلزال والخسف أو البركان، كما فعل بعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من الأمم البائدة، إلا إن الله لم يفعل ذلك ليبتلي المؤمنين، وثباتهم، وصبرهم، ويتخذ منهم شهداء، ليتحقق النصر بأيديهم، كما يريد الله لهم، وكما بشر بهم، فهم أمة الجهاد التي خصها الله به من بين الأمم، وهم وعد الله وحزبه وجنده، وبهم يظهر دينه وأمره، وتعلو كلمته، ويتحقق نصره ﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾.

ثم بشرهم جميعا من قاتل منهم في سبيل الله، كما في قراءة الجمهور ﴿والذين قاتلوا﴾، ومن قُتل منهم كما في قراءة حفص وأبي عمرو ﴿والذين قُتلوا﴾ بأن الله لن يضل أعمالهم، بل سيصلح بالهم وحالهم، كما أصلح بالهم بالإيمان والعمل الصالح، في الدنيا والآخرة.

وصلاح البال بلوغه درجة الحسن والكمال المقدور له، ويعم:

١- صلاح القلب ابتداءً، بالتصديق، واليقين، والطمأنينة، والرضا، والهداية ﴿ومن يؤمن بالله يهد قلبه﴾ [التغابن: ١١].

٢- ثم صلاح الأعمال ﴿يصلح لكم أعمالكم﴾ بالطاعات، وإعانة المؤمن عليها، والإخلاص فيها، وقبول الله لها، وحفظ العبد من الوقوع في المحرمات .

٣- ثم صلاح الحال كله بالحياة الطيبة التي يجدها المؤمن في الحياة الدنيا، وهي الجنة التي من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ [النحل: ٩٧].

وقوله: ﴿ويدخلهم الجنة عرفها لهم﴾ والتعريف هنا تحقق بهدايته لهم إلى سبيله، حتى عرفوا جنته بالإيمان به وبما أنزل على محمد، فمن اهتدى به فقد عرف الجنة، ومن عرفها كما وصفها الله له لم يزل يشد السير إليها حتى يدخلها، وكذا كان حال الصحابة حين عرّفهم الله الجنة، فأرخصوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم في سبيلها، ومن عرف الجنة في الدنيا كما عرفه الله إياها عرف منزله فيها يوم القيامة كما يعرف طريق منزله في الدنيا، ووجد عرْفها وريحها الطيبة، حيث عرّفها الله وطيبها وزينها وهيئها لعباده المؤمنين.

ويدخل في تعريف الجنة؛ ما يجده المؤمن من ثمرة إيمانه وأعماله الصالحة في الدنيا من أنس بالله وحياة طيبة مطمئنة؛ كما قال شيخ الإسلام: «إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها؛ لن يدخل جنة الآخرة».



نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (1)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق