الجمعة، 21 يوليو 2023

نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (٩)

 نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (٩)

د. حاكم المطيري 

 ﴿إِنَّ الَّذينَ ارتَدّوا عَلى أَدبارِهِم مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيطانُ سَوَّلَ لَهُم وَأَملى لَهُم ۝ ذلِكَ بِأَنَّهُم قالوا لِلَّذينَ كَرِهوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطيعُكُم في بَعضِ الأَمرِ وَاللَّهُ يَعلَمُ إِسرارَهُم ۝ فَكَيفَ إِذا تَوَفَّتهُمُ المَلائِكَةُ يَضرِبونَ وُجوهَهُم وَأَدبارَهُم ۝ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعوا ما أَسخَطَ اللَّهَ وَكَرِهوا رِضوانَهُ فَأَحبَطَ أَعمالَهُم ۝﴾ [محمد: ٢٥-٢٨].

كشفت هذه الآيات حال المنافقين وارتدادهم على أدبارهم، بعد أن آمنوا ظاهرا، بالدخول في الإسلام، ثم كفروا باطنا، أو نقضوا إسلامهم الظاهر بأفعال تنافي الإسلام، الذي يقتضي التسليم لحكم الله ورسوله، وهم طائفتان:

١-  فالأولى بعض يهود المدينة الذين تظاهروا بالإيمان بالنبي ﷺ ثم ارتدوا عنه بقصد فتنة المسلمين عن دينهم، بدعوى أن أهل الكتاب دخلوا فيه، وعرفوا حقيقته، وأنه دين باطل، كما أخبر الله عنهم ﴿ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ۝ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ۝ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ۝ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمِنوا بالذي أنزل على الذين آمَنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ۝ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يُؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم﴾ [آل عمران: ٦٩-٧٣].

وهؤلاء الذين ورد في شأنهم الحديث الصحيح: (من بدل دينه فاقتلوه)؛ لمنع فتنتهم المؤمنين، وسد ذريعة اتخاذ الدين الذي جاء لهداية الخلق وسيلة لإضلالهم وصدهم عن سبيل الله، فكان القتل مانعا لهم من هذه الحيلة الشيطانية، وهذا ما أدركه معاذ بن جبل، كما في صحيح البخاري أن النبي ﷺ بعث أبا موسى الأشعري (إلى اليمن، ثم اتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات).

فعلم معاذ بأن هذا اليهودي من هذا الصنف، فلم يستتبه، ولم ينتظر في شأنه، وإنما قال قضاء الله لعلمه -وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام- بأنهم المنافقون المقصودون بقول الله في سورة آخر سورة الأحزاب ﴿لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ۝ ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقُتِّلوا تقتيلا ۝ سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا﴾ [الأحزاب: ٦٠-٦٢].

فقد وقع ما توعدت به هذه الآية المنافقين من هذا الصنف فأُخذوا ولعنوا وقُتِّلوا تقتيلا، في كل مكان، حتى في اليمن، وهم المنافقون من اليهود الذين توعدهم الله بالعذاب ﴿ولن تجد لسنة الله تبديلا﴾[الأحزاب:٦٢]، ولم يفعل ذلك في الصنف الثاني.

٢- وهم الطائفة الثانية من المنافقين من أهل المدينة من الأوس والخزرج، ممن والوا يهود، ومالوا معهم، كأبي بن سلول ومن على شاكلته، وهؤلاء أسرّوا كفرهم وارتدادهم، ولم يظهروه، فلم يتعرض لهم النبي ﷺ، وأجرى عليهم حكم الإسلام الظاهر.

وقوله: ﴿من بعد ما تبين لهم الهدى﴾ يرشح أن المقصود هم الصنف الأول وهم المنافقون من يهود، فهم أهل علم وكتاب، وقد تبيّن لهم صدق النبي ﷺ بما وجدوا صفته في التوراة بل كانوا ﴿يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون﴾ [البقرة:١٤٦].

ثم بينت الآيات سبب هذا الارتداد عن الحق بعدما تبين لهؤلاء المنافقين وهو اتباعهم الشيطان الذي سوّل لهم أعمالهم، وزيّن حالهم، وأملى لهم، فمدّهم بالأماني الكاذبة بالنصر، وبأن بإمكانهم إطفاء نور الله، والصد عن سبيله، والقضاء على دعوة الإسلام في المدينة بتحريض مشركي العرب على حرب النبي ﷺ، وحصار المدينة، فهذا هو السبب، لا لأن هناك شبهة طرأت لهم، فضلا عن دليل يحملهم على هذا الارتداد عن دين الإسلام. 

ثم ذكرت الآيات هنا ما به كان هذا الارتداد، والفعل الذي صاروا به منافقين ﴿ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله﴾ وهم مشركو العرب وكفار قريش ﴿سنطيعكم في بعض الأمر﴾ وهو قتال النبي ﷺ وحصاره في المدينة، وهو ما كان منهم فعلا يوم الخندق،﴿والله يعلم إسرارهم﴾ وما تواطأوا عليه سرا من كيد للنبي ﷺ وللمؤمنين، وهذا شأن النفاق فهو يسعى في الخفاء، ويبطن عداوته.

ويحتمل أن يكون المراد ما فعله منافقو المدينة بصدهم الناس عن الخروج مع النبي ﷺ إلى الجهاد يوم أحد، ورجوع ابن أبي سلول بثلث الجيش أثناء المسير إلى الجهاد، ويكون ذلك باتفاقهم سرا مع يهود المدينة وهم الذين كرهوا ما نزل الله.

وقوله: ﴿في بعض الأمر﴾ يدل على أن الارتداد عن الإسلام يكون حتى ببعض الأمر الذي يناقض أحكامه القطعية، وأن طاعة الكفار واتباعهم في شيء مما ينافي حكم الإسلام كفر به، وردة عنه، ونفاق فيهم، كما توعدهم الله تعالى بالكفر ببعض دينه ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض﴾[البقرة:٨٥].

وقد جعل الله الجزاء لهم على ارتدادهم ضرب الملائكة -عند الوفاة- وجوههم التي أعرضت عن الحق وانصرفت عنه، وأدبارهم التي تقهقروا وانقلبوا تجاهها، حيث رجعوا وعادوا إلى كفرهم، وهذا أشد في إهانتهم، وإذلالهم، وهذا دليل على أن العذاب الأخروي يحلّ بهم ويبدأ من ساعة الوفاة، ومنه عذاب القبر كما تواترت به السنة بتفصيل أهواله.

ثم ذكرت السورة سبب ذلك كله ﴿ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه﴾ فجعل اتباعهم ما أسخط الله -وهو الشرك والكفر والارتداد، ومنه طاعتهم لأعدائه من يهود ومشركي العرب في بعض الأمر- وكراهيتهم رضوانه وهو الإسلام الذي شرعه ورضيه لهم: سببا لما يصدر منهم، وما حل ويحل بهم.

ودلت الآية على أن النفاق والارتداد كما يكون فعلا ظاهرا كاتباع ما أسخط الله بفعل ما حرمه عليهم ونهاهم عنه من الشرك والكفر؛ يكون كذلك فعلا قلبيا وعملا باطنيا، وهو كراهة قلوبهم لدين الله، وكراهة الإسلام وفعل ما يرضيه، وكل ذلك يحبط العمل ﴿فأحبط أعمالهم﴾ فدلّ على أنه كفر وردة.

والاتباع للنبي ﷺ والمحبة لله ولرسوله ولدينه هما حقيقة الإيمان، كما قال تعالى: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾[آل عمران:٣١]، وقال ﷺ (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود للكفر بعد إذ نجاه الله منه).

ونقيضهما وهو اتباع ما أسخط الله، وكراهية رضوانه هو الكفر والنفاق.

واتباع ما أسخط الله يعمّ اتّباع كل مَن أمر بغير ما شرعه الله وجاء به النبي ﷺ، سواء كان:

١- اتباع الرؤساء والملوك والكبراء، كما في قوله تعالى عن قوم فرعون: ﴿فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد﴾[هود:٩٧]، وكما قال عن قوم عاد: ﴿واتبعوا أمر كل جبار عنيد﴾[هود:٥٩]، والجبار الملك القاهر، وكما في قوله عن أصحاب النار: ﴿قالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا﴾[الأحزاب:٦٧].

٢- أو اتباع رجال الدين فيما يخالف حكم الله، كما هو فعل مشركي أهل الكتاب من اليهود والنصارى ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله﴾[التوبة:٣١].

٣- أو اتباع الإنسان لهواه وشهواته فلا يحل ولا يحرم إلا ما تريده نفسه وتهواه ﴿فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين .. واتبع هواه﴾[الأعراف: ١٧٥- ١٧٦]، ﴿من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا﴾[الكهف:٢٨]، ﴿واتَّبَعوا الشهوات﴾[مريم:٥٩]، ﴿واتَّبَعوا أهواءهم﴾.

٤- أو اتباع الشيطان سواء من الجن أو الإنس ﴿واتَّبَعوا ما تتلوا الشياطين﴾[البقرة:١٠٢]، ﴿ولا تَتَّبِعوا خطوات الشيطان﴾[البقرة:١٦٨].



نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (1)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق