نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (1)
– ﴿الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصّالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للنّاس أمثالهم فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتّى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإمّا منا بعد وإمّا فداء حتّى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرّفها لهم﴾ [محمد: ١-٦]
جاءت هذه السورة وهي مدنية بعد سورة الأحقاف وهي مكية وآخر آية منها قوله تعالى: ﴿فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون﴾ [الأحقاف: ٣٥].
فاستفتح سورة محمد بذكر القوم الفاسقين الذين توعدهم،
وأنهم الذين كفروا من أهل مكة ومن كان على مثل حالهم، وأنه كما سأل أهل الأحقاف نبيهم هودا واستعجلوه بالعذاب، فحل بهم ﴿فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين﴾، وصاروا خبرا بعد أثر، كذلك سيحلّ بمشركي العرب ومجرميهم ما حلّ بقوم هود، حتى كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، فإذا هم خبر من الأخبار، فلا تستعجل يا محمد، واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإنما عليك البلاغ، والله يتولى أمرك، ويظهر دينك، ويخزي عدوك، كما هي سنته في المجرمين.
وهذه الآيات من دلائل نبوته ﷺ ومعجزاته الخبرية التي تحققت كما توعدت، فما لبث مشركو مكة والعرب إلا قليلا حتى وقع بهم ما أنذرت به آخر سورة الأحقاف المكية، وأول سورة محمد المدنية، فكأنما هي ساعة من نهار.
واشتهرت هذه السورة باسم سورة محمد لذكره ﷺ في أولها، وباسم سورة القتال، لقوله تعالى فيها: ﴿سورة محكمة وذكر فيها القتال﴾.
وقد ورد اسم محمد ﷺ في القرآن أربع مرات وكلها في سور القتال المدنية،
وبيان أحكامه وأحداثه وحكمه وهي:
١- سورة آل عمران في قوله تعالى: ﴿وما محمد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشّاكرين﴾ [آل عمران: ١٤٤]، وفي السورة ما تفصيل ما جرى في غزوة بدر، وغزوة أحد.
٢- وسورة الأحزاب: ﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيّين وكان الله بكل شيء عليما﴾ [الأحزاب: ٤٠]، وفيها تفصيل ما وقع يوم الأحزاب وحصار المدينة.
٣- وسورة محمد: ﴿والذين آمنوا وعملوا الصّالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم﴾ [محمد: ٢]
٤- وسورة الفتح: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفّار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصّالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما﴾ [الفتح: ٢٩]، وهي في بيان صلح الحديبية وما جرى فيه.
وفي اقتران اسمه ﷺ بالقتال
بيان أنه كما أنه رحمة للعالمين، فهو كذلك نبي الملحمة، كما قال ﷺ عن نفسه (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده)، وقال: (أنا محمد، وأنا نبي الرحمة، ونبي الملحمة)، وقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله..).
إذ عامة الأنبياء لم يشرع لهم القتال، ومن شرع له القتال كموسى وداود وسليمان، لم يشرع لهم مطلقا، بخلاف النبي محمد ﷺ شرع مطلقا لعموم رسالته، وأنه خاتم الأنبياء، فأمر هو وأمته إلى قيام الساعة بالجهاد في سبيل الله، وإقامة دينه، حتى يظهر على الدين كله، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وافتتحت السورة بنمط غير معهود في القرآن كله بقوله:
﴿الذين كفروا﴾ لمناسبة هذا الاستفتاح موضوع السورة وهو التحريض المباشر على القتال، وبيان سببه، وهو كفرهم بالله، وصدهم عن سبيله، بانصرافهم عنه، وبمنع غيرهم من سماعه، وصدهم عن معرفة الحق واتباعه، فابتدأ بذكرهم بلا تمهيد إعلانا للحرب عليهم، وإرهابا لهم، وحسما للخلاف معهم، وبيانا صريحا واضحا لعلة عداوتهم وقتالهم، وتمييزا للصفوف؛ ليتبين للجميع حقيقة المفاصلة بين المؤمنين والكافرين.
وجاء بصيغة الاسم الموصول ﴿الذين﴾،
وصلته ﴿كفروا وصدوا عن سبيل﴾، لتحقير شأنهم، وإفادة العموم لغيرهم ممن فعل مثلهم، وأن الحكم يعم كل من كفروا وصدوا عن سبيل الله، من العرب وغيرهم، في عهد النبي ﷺ ومن بعدهم، وأن الله قد أضل أعمالهم، وأبطل سعيهم، في الدنيا بالخزي، والهزيمة، وذهاب الريح، وفي الآخرة بالعذاب الأليم.
وقرن بين ﴿كفروا﴾ ﴿وصدوا عن سبيل الله﴾ لبيان عظيم جنايتهم وجرمهم، وللتفريق في الحكم بينهم وبين من كفروا وسالموا النبي ﷺ ولم يحاربوا الله ورسوله ودينه، فلهم من الأمن في الدنيا وعصمة النفس والمال ما للمؤمنين.
وسبيل الله هو دينه وشرعه الذي بعث به رسله،
وأنزله في كتبه، وأوحاه كله كاملا، ومبينا مفصلا، إلى خاتمهم نبيه محمدا ﷺ، وهو الصراط المستقيم، فكل من صد وأعرض عنه، أو صرف غيره عنه أو عن بعض ما جاء به، فقد أضل الله من عمله بقدر كفره وصده، فسبيل الله واحد، وهو ما كان عليه النبي ﷺ وخلفاؤه الراشدون، وأصحابه المهديون، ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾ [النساء: ١١٥]
وقال: ﴿أضل أعمالهم﴾ بهمزة التعدية، ولم يقل (ضلت أعمالهم)، بيانا لقدرة الله عليهم، وأن هذا فعل الله بهم، وأن الله هو الذي أبطل أعمالهم عقابا لهم، جزاء كفرهم وصدهم عن سبيله، من حيث يظنون أنهم يحسنون عملا، ويرجون أملا.
وقال: ﴿أعمالهم﴾ بالجمع والإضافة، ليعم كل الأعمال التي يرجونها سواء ما كان من كيدهم بالنبي ﷺ وبالمؤمنين، وحربهم لهم، وتأليب الأحزاب والعرب عليهم، فأبطل أثره، كأن لم تكن، أو ما كانوا يعملونه ويجاهدون فيه من بذل الأموال لحفظ مكانتهم، وجاههم، وسلطانهم في العرب؛ فأبطله الله وأذهبه، أو ما كانوا يرجونه من أعمالهم في ثواب الآخرة، كعمارة المسجد الحرام، وإطعامهم الحجاج، ونحوها من أعمال البر والمعروف، فقد أحبطه الله وأضله، وأبطله كله، حين تخلف شرطه وهو الإيمان بالله واتباع رسوله ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا﴾ [الفرقان: ٢٣].
ثم ذكر الفريق الثاني
وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وخصّ إيمانهم بمحمد ﷺ وما نزل عليه من الوحي، تشريفا وتكريما لهم، وتنويها بمكانته ﷺ، إذ الخصومة فيه، سواء مع من كفر بالرسل جميعا، أو مع من يدّعي الإيمان بالرسل قبله وكفر به وحده، وكأن من آمن به فقد آمن، ومن كفر به فقد كفر، فهو ﷺ وكتابه ودينه الفرقان بين الكفر والإيمان.
واسم محمد من الحمد،
وهو نقيض الذم، وفي ذكره في الموضع حمد للمؤمنين فهم محمدون، محمودون، في السماء والأرض، وفي الدنيا والآخرة، وخصومهم مذمومون مذممون في السماء والأرض، في الدنيا والآخرة.
وفي قوله: ﴿وهو الحق من ربهم﴾ إزالة لكل شبهة قد تطرأ على نبوته، أو الوحي الذين نزل عليه، أو في الخصومة في هذه القضية بين الفريقين من آمنوا به أو كفروا.
وقال: ﴿من ربهم﴾ تأكيدا على أنه ما نزل على محمد من الوحي هو من الله ابتداء، فهو الذي أوحاه إلى نبيه ﷺ، لا كما يدعي المشركون بأنه سحر، أو أنه تعلمه من غيره، وأضاف اسم الرب إلى ضمير المؤمنين تشريفا لهم، فهو ربهم الذي هداهم، ونصرهم، ولم يضل أعمالهم، دون الكافرين، مع أنه ﷻ ﴿رب العالمين﴾، إلا أنه في مقام ذكر الفريقين، خصّ أولياءه بالنسبة إليهم، حين آمنوا به واتبعوا سبيله، وأطاعوا رسوله، فكانوا أولى بالنسبة إليهم ممن كفر به وصد عن سبيله.
وقوله:
﴿كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم﴾ فيه مقابلة في الجزاء بينهم وبين الذين كفروا، فأولئك كفروا وجحدوا وستروا الحق الذي يجب إظهاره ونصرته، وصدوا عنه؛ فأضل أعمالهم. والمؤمنون أظهروا الحق بالإيمان، والعمل الصالح، والنصرة؛ فستر الله سيئاتهم وكفرها، وأذهبها عنهم، وأبطل آثارها، كأن لم تصدر منهم، وأصلح بالهم، وهو شأنهم وحالهم، والبال هو القلب والحال، والصلاح مقابل الفساد، وصلاح القلب صلاح للبال والحال والأعمال، كما في الصحيح: (ألا وإن في القلب مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فقابل الفريقين كلا بما يستحقه من الجزاء العادل.
ثم علل هذا الجزاء للفريقين بقوله:
﴿ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل﴾، وهو الشيطان وخطواته، والطاغوت وأولياؤه، والإنسان وأهواؤه، فضلّوا، وأضلوا، وحبطت أعمالهم، ﴿وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم﴾ والحق هو الثابت الراسخ، نقيض الباطل الزائل، والحق هنا النبي ﷺ والقرآن الذي جاء به، فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حميد، وكل ما خالفه باطل.
فأصدر الله الحكم البات القاطع بين الفريقين في أول آيتين من السورة، تهيئة للعقول، وشدا للنفوس، وجذبا للأسماع، لما سيأتي من أحكام الجهاد والقتال.
﴿كذلك يضرب الله للناس أمثالهم﴾، فكل إنسان هو أحد هذين الفريقين، ولا ثالث لهما، فهذه أمثالهم، وهذه أعمالهم، وهذه أحوالهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق