نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (٨)
– ﴿فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَلَّيتُم أَن تُفسِدوا فِي الأَرضِ وَتُقَطِّعوا أَرحامَكُم أُولئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُم وَأَعمى أَبصارَهُم أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَم عَلى قُلوبٍ أَقفالُها﴾ [محمد: ٢٢-٢٤]
وفي هذه الآيات إخبار عن حال هؤلاء المنافقين الذين تولوا عن الوحي، وعن الجهاد في سبيل الله خشية الموت، وأنهم كانوا يتمنون -حين أعرضوا عما جاء به الوحي من إيمان، وإسلام، وعلم، وهدى، وتقوى- أن يعودوا إلى ما كانوا عليه من جاهلية، يستحل بعضهم فيها دماء بعض وأموالهم، ويغلب قويهم ضعيفهم، ويعتدي ظالمهم على مظلومهم، ويقطعون أرحامهم، ويفسدون في الأرض.
وقوله: ﴿فهل عسيتم﴾ استفهام تعنيف لهم، وزجر عن تمني ذلك، فإنهم في إعراضهم عن الجهاد في سبيل الله كمن يتمنى عودة الجاهلية وكفرها، وظلمها وتظالمها، وفسادها وعدوانها، واقتتالهم فيما بينهم، كما قال زهير:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدّم ومن لا يَظلم الناس يُظلم
وقال القطامي:
وأحيانا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
وقد خاطبت السورة المنافقين في هذه الآية مباشرة ﴿فهل عسيتم﴾، بينما كانت تتحدث عنهم قبل ذلك بأسلوب الغيبة ﴿ومنهم من يستمع إليك﴾، ﴿رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك﴾، وذلك مراعاة لمقتضى الحال، فإن ما سبق منهم من استماع بلا عقل، ونظر بلا وعي، يكاد يغشى عليهم من الموت، حالٌ تقتضي التعريض بهم، إذ لا يتجاوز ضرر نفاقهم هذا إلى غيرهم من المؤمنين، بخلاف تمنيهم عودة الجاهلية التي كانوا عليها، والفساد في الأرض، وقطع الأرحام؛ فهذا خطر على دعوة الإسلام، وعلى دولة النبوة، وعلى المجتمع الإسلامي كله، فلا مجال فيه لخطاب الغيبة والتعريض بهم، بل صدعهم بالحق كفاحا، وتحذيرهم صراحا من أمانيهم هذه التي زينها لهم الشيطان، وأولياؤهم من اليهود الذين يقولون لمشركي مكة والمنافقين من أهل المدينة بأن ما هم عليه من جاهلية وكفر أهدى مما عليه النبي ﷺ ومن معه من المؤمنين، ويزينون لهم العودة إلى ما كانوا عليه من فساد، وحروب كانوا هم من يشعلها، ويرابون الأموال فيها، كما قال الله عنهم: ﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا﴾ [النساء: ٥١].
وقال عنهم: ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين﴾ [المائدة: ٦٤].
والضمير في قوله: ﴿أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم﴾ قد يعود على أهل الجاهلية الذين يتمنى هؤلاء المنافقون أن يرجعوا إلى الحال التي كانوا عليها. ويأخذ حكمهم في العمى والصمم واللعن كل من كان على مثل حالهم من الفساد في الأرض وقطع الأرحام، وقد يعود الضمير على المنافقين أنفسهم، والتفت من أسلوب الخطاب لهم ﴿عسيتم﴾ إلى أسلوب الغيبة ﴿أولئك الذين لعنهم الله﴾؛ تحقيرا لهم، وتحذيرا لغيرهم، ولجعل الحكم عاما لكل من يتمنى عودة الجاهلية، كما في الصحيح: (أبغض الناس إلى الله .. ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية).
ثم نعت السورة على هؤلاء المنافقين خاصة، والكافرين عامة، عدم استماعهم القرآن استماع عقل، وتدبر، واهتداء ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ والتدبر: التفكر في الأمر بأقصى غاية النظر والتعقل، ومعرفة حقيقة الكلام، وغاية المتكلم منه، ومآلاته وعواقبه.
وهذا القرآن حري بالتدبر، فهو كلام الله ووعده ووعيده وشرعه وأخباره وحِكمَه الذي فيه سعادة الإنسان في الدنيا بالحياة الطيبة المطمئنة، ونجاته في الآخرة ودخول الجنة، فلا يعرض عنه إلا من كان على قلبه قفل محكم، كحال قلوب هؤلاء المنافقين، حين صدوا عنه، وأعرضوا عن هدايته، فكان الجزاء من جنس العمل؛ فأصمهم الله فلا يسمعونه، وإن سمعوه لم يعقلوه، ولم يفقهوه، وأعمى أبصارهم عن رؤية واقعهم وما حولهم، وكيف يظهر الله أمر دينه ورسوله؛ دلالة على صدقه. وكيف يهزم أعداءه في كل مرة، وهم يشاهدون كل هذه الأحداث تقع كما أخبر القرآن عنه قبل وقوعها، فكان العقل يدعوهم إلى التبصر ومعرفة أن هذا هو الحق من عند الله.
و﴿أم﴾ في قوله: ﴿أم على قلوب أقفالها﴾ بمعنى (بل) التي تفيد تحقق المانع لهم من التدبر فعلا وهو انغلاق قلوبهم وقفلها، وجاء بلفظ (أم) بدلا من بل، لاحتمالها الاستفهام وما فيه من دلالة العموم، بحيث يعم الحكم كل من لم يتدبر القرآن، ويرشح هذا المعنى قوله: ﴿على قلوب﴾ فلم يقل (قلوبهم)، فكل قلب لم يتدبر القرآن وأعرض عن هداياته؛ فعليه من الأقفال بقدر إعراضه، فإن كان إعراضا كليا فبانغلاقه كليا كما هو حال الكفار والمنافقين، وإن كان الإعراض جزئيا فجزئيا كما هو حال بعض المسلمين الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي، ولم يكتمل اهتداؤهم بالقرآن لوجود أقفال النفس وأهواؤها وشهواتها وشبهاتها.
وهذه المعاصي التي يقع فيها بعض المؤمنين هي نفاق عملي، وإعراض جزئي، وحُجبٌ تعمي وتصم صاحبها، فتحجب عنه من الإيمان ونوره بقدر ما يقع فيه من المعاصي، كما في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)؛ لأن الإيمان نور وهدى يحجز صاحبه عن الوقوع في الكبائر والمعاصي، فمبجرد أن يلم المؤمن بمقدمتها ويقع منه اللمم والصغائر؛ تذكر واستيقظ وأبصر وتاب، كما قال تعالى: ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ [الأعراف:٢٠١].
فما هو إلا أن يمسهم طيف الشيطان ويزين لهم الحرام، فإذا هم سرعان ما تذكروا وأبصروا بنور الإيمان.
ولهذا كان النفاق العملي دركات في الظلمات فإذا استحكم كان نفاقا خالصا، كما في الصحيح (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه واحدة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، إذا خاصم فجر -أو إذا عاهد غدر- وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)، وذلك أن الإيمان الصدق والتصديق، والنفاق نقيضه فهو كذب بادعاء الإسلام وإخفاء الكفر، وكل هذه الصفات الأربع الموصوف صاحبها بالنفاق الخالص على خلاف الصدق، سواء من يحدث كذبا على خلاف الصدق، أو يفجر في الخصومة ويدعي على خصمه خلاف الحق والصدق، أو يخون الأمانة ويجحدها كذبا، أو من يعاهد أو يعد فيغدر بخلاف ما يقتضي الصدق والوفاء بالعهد والوعد.
وكل ذلك بسبب الصمم عن هدايات القرآن والعمى الذي يصيب من أعرض عنه سواء إعراضا كليا كالنفاق القلبي الاعتقادي وهو نفاق الكافرين، أو جزئيا كالنفاق العملي الذي يقع من بعض المؤمنين.
ودعوتهم إلى تدبر القرآن دليل على أنه ممكن لهم، وفي قدرتهم واستطاعتهم لو أرادوا، لما منّ الله تعالى به على عباده في هذا القرآن المعجز في بلاغته وبيانه وحكمته، مع يسره في تلاوته وتدبره وفهمه، كما قال تعالى: ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ [القمر: ١٧]
وهذا من بركة هذا الكتاب الكريم، فلا يحتاج فهمه والاهتداء به حتى من الأمي والأعرابي فضلا عن غيرهم إلا إلى الاستماع إليه سماع تعقل وتفكر، أو قراءته قراءة تدبر وتذكر، كما قال تعالى عن الغاية من إنزاله: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب﴾ [ص:٢٩].
والتذكر هو ثمرة التدبر، وهو وقوع الذكرى موقعها في نفس سامع القرآن، فتورثه اليقظة، ثم التبصر، ثم الخشية، ثم التوبة، ثم التقوى، ولا يكون إلا لذوي العقول والبصائر، الذين قال الله فيهم: ﴿فذكر إن نفعت الذكرى. سيذكر من يخشى﴾ [الأعلى: ٩-١٠].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق