نظرات قرآنية في سورة محمد ﷺ (٤)
﴿أَفَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَيَنظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذينَ مِن قَبلِهِم دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيهِم وَلِلكافِرينَ أَمثالُها ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَولَى الَّذينَ آمَنوا وَأَنَّ الكافِرينَ لا مَولى لَهُم إِنَّ اللَّهَ يُدخِلُ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ وَالَّذينَ كَفَروا يَتَمَتَّعونَ وَيَأكُلونَ كَما تَأكُلُ الأَنعامُ وَالنّارُ مَثوًى لَهُم﴾ [محمد: ١٠-١٢]
لما توعد الله الكافرين بالشقاء بيّن بعده أن ذلك سنة مطردة لله فيهم، ودعا مشركي العرب وكفارهم الذين كفروا بمحمد ﷺ وصدوا عن دينه أن ينظروا في عاقبة من قبلهم
﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم﴾،
وهذا استفهام تقرير يدعوهم فيه إلى النظر والاعتبار، بما يرونه حولهم من أطلال الأمم البائدة وآثارهم، التي يشاهدونها في أسفارهم، حيث تحيط بجزيرة العرب وطرق تجارتهم إلى اليمن والشام آثار عاد قوم هود، ومدائن ثمود قوم صالح، وقرى مدين قوم شعيب، وقرى قوم لوط، كما قال تعالى:
﴿وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين﴾
[الصافات: ١٣٧].
ثم قال: ﴿دمّر الله عليهم﴾ ودمر فعل يتعدى بنفسه، فالأصل أن يقال (دمر الله قراهم)، وإنما حذف المفعول هنا ليعم التدمير كل شيء لهم: أنفسهم وأهليهم ومتاعهم ومساكنهم وقراهم، وعدّى دمّر هنا بحرف (عليهم) إشارة إلى أن التدمير نزل عليهم من السماء، وحل بهم عقوبة من الله، فلا يستطيعون رده ولا دفعه، وكأنما ضُمن (دمر) فعل (غضب) الذي يتعدى بحرف على، فغضب الله عليهم فدمرهم، فدل على الفعل المقدر بحرف الجر، فكان أبلغ في البيان، وأشد قرعا للأسماع والأذهان.
ثم بيّن أن هذا سنة مطردة لكل من كفر بالله من قبل ومن بعد ﴿وللكافرين أمثالها﴾ فلا يأمن هؤلاء الكفار أن يحل بهم ما حل بمن قبلهم، والأمثال الأشباه والنظائر، وأفاد الجمع (أمثال) بأن العقوبات كثيرة ومتنوعة فقد تكون بالريح العاصف، وقد تكون بالزلازل، وقد تكون بالفيضان والطوفان، أو بالجوع والجفاف، أو بالحروب والفتن، كما قال تعالى:
﴿قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون﴾
[الأنعام: ٦٥].
فيعاقب الله كل قوم بما يناسب كفرهم وبغيهم وطغيانهم، وبما أرادوه مصدر رزقهم وثروتهم، أو قوتهم وأمنهم، فيأخذهم الله به من حيث رجوا نفعه، كما أخذ عادًا بالعارض الذي ظنوه مطرا
﴿فلمّا رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلّا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين﴾
[الأحقاف: ٢٤-٢٥].
وأوضح ما يكون ذلك بإعداد الكفار للجيوش؛ لحماية أمنهم، وتثبيت سلطانهم؛ فتكون بها هزيمتهم ونهايتهم، كما هو مشاهد في الأمم والدول.
ثم ذكرت السورة سبب نصر المؤمنين وهدايتهم وفلاحهم مع ضعفهم وقلة عددهم وعتادهم، وقوة أعدائهم وكثرة عُددهم ﴿ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم﴾، فالله هو ولي المؤمنين الناصر لهم على كل عدو، الهادي لهم إلى كل خير، وأما الكافرون فلا مولى لهم ينصرهم أو يرد عنهم عقاب الله وعذابه، أو يهديهم إلى الخير والرشاد.
والمولى هنا من الولي وهو الذي يتولى الأمر ويصرفه كما يشاء، لا ينازعه في ولايته أحد، كما ولي اليتيم، وليست هذه الولاية المطلقة لأحد إلا لله، وهي في القرآن على نوعين:
١- الولاية العامة للخلق وهي ولاية التدبير والتصريف لكل شئونهم، كما قال تعالى: ﴿ثم ردّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين﴾
[الأنعام: ٦٢]
وقال: ﴿ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظّالمون ما لهم من ولي ولا نصير أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير﴾
[الشورى: ٨-٩].
٢- والولاية الخاصة من الله للمؤمنين بحفظهم ورعايتهم، ونصرهم وهدايتهم، كما قال: ﴿إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصّالحين﴾
[الأعراف: ١٩٦]
فيتولاهم بالهداية والحفظ والنصرة والتوفيق.
وكما قال تعالى: ﴿الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النّور والذين كفروا أولياؤهم الطّاغوت يخرجونهم من النّور إلى الظلمات أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون﴾
[البقرة: ٢٥٧].
فقوله تعالى عن الكافرين: ﴿لا مولى لهم﴾ ينصرهم من الله، ويهديهم سبيل النجاة، ويحفظهم من شرور أنفسهم، وشرور شياطينهم من الجن والإنس، فهي الولاية الخاصة، وقوله عن الكافرين: ﴿وردّوا إلى اللّه مولاهم الحقّ وضلّ عنهم مّا كانوا يفترون﴾
[يونس:٣٠]
فالمراد مولاهم الذي يتولى أمرهم ويحكم بينهم يوم القيامة، وهي الولاية العامة، فنفى عنهم ولاية الله الخاصة، وأثبت لهم ولايته العامة على الخلق.
وهذا كمال العدل الإلهي، حيث تولى المؤمنون الله وحده، وأطاعوه، واتبعوا رسوله، فخصهم الله بولايته الخاصة، فتولاهم وهداهم، ونصرهم ووقاهم، بينما تولى الكفار غيره واتبعوا سادتهم وكبراءهم وشياطينهم، فقطع عنهم ولايته وهدايته ونصرته، فلا مولى لهم من بعد الله يهديهم أو ينجيهم.
ثم ذكر الله جزاء الفريقين وأثر هذه الولاية الخاصة على كل فريق، وهو دخول المؤمنين الجنة وفيها يتحقق الفوز العظيم، والنصر المبين،
﴿إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظّالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدّار﴾
[غافر: ٥١-٥٢]
ففي الجنة تتجلى أوضح ما يكون آثار ولاية الله للمؤمنين في الدنيا بالهداية إلى سبيله، واتباع شرعه الذي تتحقق لهم به الحياة الطيبة، حتى اهتدوا إلى طريق الجنة، فدخلوها بإيمانهم وهداية الله لهم، وولايته الخاصة، حتى إذا استقروا فيها هتفوا حينئذ بالحمد لله الذي لا ينتهي أبدا
﴿ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون﴾
[الأعراف: ٤٣]
وكذا تتجلى يوم القيامة آثار قطع الله ولايته الخاصة عن الكفار بدخولهم النار ﴿والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم﴾ كما أرادوا لأنفسهم حين رضوا بأن يكونوا هملا كالأنعام لا يتبعون رسولا، ولا يفقهون كتابا، ولا يرجون ثوابا، ولا يخافون عقابا، ولم يقطع الله عنهم ولاية التصريف والتدبير العامة بل أجرى عليهم رزقه، ومتعهم في الدنيا، ورزقهم كما يرزق الأنعام، وأمدهم كما وعدهم، فلم يقطع عنهم فضله في الدنيا، فقال:
﴿من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا﴾
[الإسراء: ١٨-٢١].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق