الاثنين، 2 أكتوبر 2023

منهج القرآن في البرهنة على اليوم الآخر

 منهج القرآن في البرهنة على اليوم الآخر

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول

يُعَدُّ الإيمانُ باليوم الآخِر، والإعدادُ له، ورسمُ طريق الحياة بما يؤهل لحسن العاقبة فيه أمرًا ضروريًّا للإنسان؛ فهو غُدُ كل إنسان ومستقبله ومستقره ومآله، وداره التي يظل طوال حياته يكدح في السعي اتجاهها، ويكابد في السفر نحوها، غير أنّ اليوم الآخر بكل تفاصيله غيبٌ محض، والقرآن الكريم يُفَصِّل في شأنه بذكر ما يجري فيه، ويُصَرِّف الآيات في الوعد والوعيد، وفي ذكر الحساب والجزاء والثواب والعقاب، فعلى أيّ مستند يبنى القرآن هذا الصرح الهائل؟ لابد -إذَنْ- من إقامة البرهان، ولابد أن يكون البرهان متينًا متماسك البنيان، وتكفي إقامة البرهان على الحقيقة الكلية، وهي حتمية اليوم الآخر؛ لأنّها إن ثبتت واستقرت صلح البناء عليها بالخبر المجرد، وقد اتبع القرآن في البرهنة على هذه الحقيقة الكلية السير على خطين متوازيين؛ لأنّ حتمية اليوم الآخر حقيقة لا تتم ولا تثبت إلا بإثبات أمرين، الأول: إمكان البعث، والثاني: ضرورة البعث والقيامة، فإن ثبتت هاتان الحقيقتان كانت المحصلة الناتجة عن اجتماعهما هي حتمية اليوم الآخر.

البرهنة على إمكان البعث

لقد اتبع القرآن الكريم في إثبات إمكان البعث والبرهنة عليه مناهج متعددة، أولها المنهج الاستدلالي القياسيّ، وقياس الأَوْلَى يعطي نتيجة قطعية صارمة، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}، وقال: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا. أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}، فالذي خلق الإنسان أول مرة قادر على إعادته من باب أولى، ونفس الدليل يتم سوقه بتوسيع نطاق المقيس عليه، فإذا كان خلق الإنسان أول مرة دليل على إمكان إعادة خلقه مرة ثانية بطريق قياس الأوْلَى؛ فإنّ خلق الكون كله دليل أقوى وقياس أَجْلَى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا . أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}.

ثم يأتي الدليل الثاني على منهج آخر هو “الاستقراء”، وهو كما عرفة “ابن سينا” في الإشارات: “الحكم على كُلِّيٍّ بما وُجِد في جزئياته الكثيرة”، وهو هنا يفيد القطع لكونه جاء لنفي الفروض الباطلة، وإفادة هذا النوع من الاستقراء القطع يُعَدُّ من المسلمات التي أشار إليها “برتراند رسل” في الجزء الثاني من كتابه “حكمة الغرب”، ومن قبله “ابن تيمية” في رده على المناطقة، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا. وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا. وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا. وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا. وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا. وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا. وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا. وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا. وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا}، فهذا السياق الذي يندفع في العقل والوجدان اندفاع الماء العذب بين السهول والوديان يُعَدُّ استقراءً تامًّا بالمشاهدة والملاحظة، يستهدف سوق الظواهر المتعددة النافية لفرض من فروض القضية، وليس للقضية إلا فرضان، الأول: إمكان البعث، والثاني: عدم إمكان البعث، فإذا أثبت الاستقراء انتفاء الفرض الثاني بإثبات القدرة الإلهية الشاملة، لم يبق إلا التسليم للفرض الأول، وكما قال “كارل بوبر”: “إنّ الإدراك الحسّي هو معرفة مباشرة نستطيع بها تبرير معرفتنا غير المباشرة”.

البرهنة على ضرورة البعث

قد يقول قائلٌ: ولماذا يبعثنا الله بعد موتنا؟ إنّه لا ضرورة لذلك؛ فنحن إن سلمنا بإمكان البعث فإنّنا لا نسلم بضرورته؛ وإذَنْ فإنّ البرهان لا يتم إلا بالشطر الثاني من المعادلة، بالإجابة عن سؤال الضرورة: هل ثمّ ضرورة للبعث وللقيامة؟ هذا هو السؤال الذي أجاب عنه القرآن، بالاعتماد على صفتين واجبتين لله تعالى، الأولى: صفة الحكمة، والثانية: صفة العدل؛ فمما لا خلاف فيه بين العقلاء أنّ صفتي الحكمة والعدل من صفات الكمال الواجبة لله تعالى، فلا ينسب لله ظلم ولا عبث حتى يقال بنفي البعث.

إنّ الإنسان قد جاء إلى هذه الحياة بعقل وإرادة، وبقدرة على المضيّ في واحد من الطريقين: طريق الخير والاستقامة والهدى، وطريق الشر والانحراف والهوى، وعلى التوازي نجد أنّ الحياة ليست على نمط واحد ووجهة واحدة، فلا هي على خير عامٍّ مستمر، ولا هي على شرّ طامٍّ مستقرٍ، وإذَنْ فوضع الإنسان مع وضع الحياة التي جاء إليها يُحيل في مبدأ العقل انتفاء المسؤولية وانتفاء التكليف وانتفاء الجزاء المترتب على المسؤولية والتكليف.

إنّه لَمِنَ العبث والظلم معًا -تعالى الله- أن يخلق الله إنسانًا بهذه الصفات، وأن يختصه بالعقل والإرادة، وأن يهديه النجدين، في حياة بَرَزَ فيها النجدان والسبيلان وتمايزا، ثمَّ لا يكلِّفه ولا يسأله عمّا كلَّفه، ويخرج الإنسان من هذه الحياة فتُطوَى صفحته وتُلقَى معه في سلّة العدم العقيم، ويذهب الظالم كما يذهب المظلوم، ويستوي في المصير المؤمن والكافر والصالح والطالح، وتُطوى صفحة الإنسان وقد خرج من الحياة وهو في أقصى اليمين أو أقصى الشمال، ثم لا قضاء ولا حساب، قد استوى الجميع في المصير رغم اختلاف الأعمال؛ فتعالى الله عن ذلك العبث والظلم، وها هو القرآن يقرر: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}.

نتيجة اجتماع الإمكان والضرورة

وبالجمع بين الحقيقتين: (إمكان البعث وضرورة القيامة) تتقرر الحقيقة الكلية: (حتمية اليوم الآخر)؛ فقولوا للذين يشككون الجيل: كفُّوا عن هذه الحماقات؛ قد أفسدتم على الناس دنياهم فلا تفسدوا عليهم آخرتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق