الفرائد "مقالات مفردة في الدين والحياة"
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سَيِّدِ الأنبياءِ والمُرسَلين، وعلى آله وصَحْبِهِ الطيبينَ الطاهرين.. ثم أمَّا بَعْد..
فهذه مَقالاتٌ فَرائدُ -مِن الإِفرادِ لا التَّفرُّدِ- لم يَكتبْها القَلمُ بِقَدْرِ ما كَتبتْها الأَحداثُ، ولم يَخُطَّها البَنانُ بِقَدْرِ ما خَطَّهَا الجَنانُ.. جَاءَ بَعضُها عَفْوَ الخَاطِرِ في سَاعةٍ أو بَعضِ سَاعةٍ، وجَاءَ بَعضُها الآخَرُ كَدَّاً للذِّهنِ في أَيَّامٍ وأَسابيعَ.
ولأنَّها بِنتُ زَمَنِهَا وأَحداثِهِ؛ فَفيهَا مِن أَلَمِ الأَيَّامِ وأَمَلِهَا بَعضُ ما فِي الأَيَّامِ مِن أَلمٍ وأَملٍ، ومِن اسْتواءِ الفِكرةِ والْتوائِها بَعضُ ما أَحدَثَتْه الأَيَّامُ في النَّفْسِ مِن اسْتواءٍ والْتواءٍ.. وقد كُتِبتْ كُلُّها عَقِبَ ما سُمِّيَ بالرَّبيعِ العَربيِّ، وما أَكثرَ ما أَحدَثَ هذا الرَّبيعُ مِن أَلمٍ وأَملٍ اسْتوتْ بهما النُّفوسُ حِيناً والْتوتْ بِهمَا أَحياناً!!
ولأنَّها مَقالاتٌ مُفرَدةٌ؛ فلن تَجِدَ بَينَها تِلكَ الوَحدةُ المَوضوعيَّةُ التي تَجدُها في الكُتُبِ ذاتِ المَوضوعِ الوَاحدِ، ولكنَّك -مَعَ هَذَا- لن تَعدَمَ رَابطاً خَفِياً بَينَ غَالِبِ مَوضوعاتِها أو خَيطاً نَاظماً بَينَ جُلِّ أَفكارِها؛ وما ذَاكَ إلَّا لِتقارُبِ الزَّمنِ وتَشابُكِ الأَحداثِ وَهَمِّ الفُؤادِ وانْشِغالِ الخَاطِرِ.
وقد كُنتُ زَوَّرتُ في نَفسِي أن أَعودَ على هذه المَقالاتِ -بَعدَ نَشرِها على شَبكاتِ التَّواصُلِ الِاجتماعِيِّ- بالتَّعديلِ والتَّبديلِ، أو بالزِّيادةِ والنُّقصانِ؛ تَبعاً لتَجدُّدِ حَدَثٍ، أو تَكذيبِ خَبرٍ، أو خَطأِ تَصوُّرٍ؛ بَيْدَ أَنِّي عَدَدْتُ ذلك خِيانةً لرُوحِ الكَاتبِ آنَ كَتَبَ، وتَشويهاً لِجسَدِ المَكتوبِ حِينَ كُتِبَ؛ فآثرتُ أنْ أُمِرَّهَا كما جَاءَتْ أَوَّلَ تَحريرٍ، وأُبْقِيَها كما نُشِرَتْ أَوَّلَ تَحبيرٍ؛ لِتَكُونَ صُورةَ حَالٍ، ورَصْدَ واقعٍ، وَقَيدَ آبِدَةٍ.. وما أَظُنُّنِي وَجدْتُ فيها -حِينَ هَيَّأتُها لِلنَّشرِ- شَيئاً يُمكِنُ أنْ يُبدَّلَ تَبَعاً لذلك، ولو وَجدْتُ لأَثْبَتُّ المَقالَ كما نُشِرَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وأَشرْتُ إلى الخَطأِ أو التَّكذيبِ في الهَامِشِ..
اللَّهُمَّ إلَّا خَطَأً لُغَويَّاً أَحدَثَهُ السَّهْوُ واحتَاجَ إلى تَصويبٍ، أو سَبْقَ قَلمٍ أَحدَثَتْه العَجلةُ واحتَاجِ إلى تصحيح، أو بَعثَرَةَ جُمَلٍ أَحدَثَها التَّردُّدُ واحتَاجَتْ إلى تَرتيبٍ؛ مِمَّا لا يَكادُ يَسلمُ مِنه كَاتبٌ أو يَتنَزَّهُ عنه مَكتوبٌ.. والكَمالُ للهِ وَحدَهُ جَلَّ وعَلَا.
وقد رَتَّبْتُها مُتَتَابِعةً حَسَبَ تَاريخِ نَشْرِها لا حَسَبَ قُرْبِ مَوضوعاتِ بَعضِها مِن بَعضٍ؛ لِتكُونَ مُسلْسلةً زَمناً لا مَوضوعاً؛ فيَستعينَ القَارئُ الكَريمُ بِمَعرفةِ أَجواءِ المَبنَى على الإِحاطةِ بالمَعنَى، وبِمَعرفةِ السِّياقِ على فَهْمِ المَساقِ!!
ثُمَّ إِنِّي لا أَكادُ أَجِدُ دُعاءً أَدعُو بِهِ بَينَ يَدَيْ كِتَابِي هَذَا أَمْثَلَ مِن دُعاءِ الجَاحظِ حِينَ صَدَّرَ كِتابَه (البَيانُ والتَّبَيُّنُ) بِقَولِهِ:
"اللَّهُمَّ إِنَّا نَعوذُ بِكَ مِن فِتنةِ القَولِ، كَمَا نَعوذُ بِكَ مِن فِتنةِ العَملِ، ونَعوذُ بِكَ مِن التَّكلُّفِ لِمَا لا نُحسِنُ كما نَعوذُ بِكَ مِن العُجْبِ بِما نُحسِنُ، ونَعوذُ بِكَ مِن السَّلاطةِ والهَذَرِ، كما نَعوذُ بِكَ مِن العِيِّ والحَصَرِ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق