الهجرة من توحش ( الأنا )!
في ظل الحضارة المادية الجارفة ، التي طبعت العالم بطبعها ، وصبغت الناس - إلا من رحم الله - بصبغتها ، وأصبح الإنسان فيها أسير مصلحته وأنانيته ، وسجين جشعه وطمعه ، يأكل – كالنار - الأخضر واليابس ، ولا يلوي علي شيء ، شعاره : أنا ومن بعدي الطوفان.!
وقد شبّه الإمام ( محمد الغزالي ) – رحمه الله - هذه الحضارة
المادية بـ( أبي الهول ) التمثال القابع عند الأهرام في مصر ، له
وجه إنسان وجسم حيوان ! كذلك هذه الحضارة لها عقل إنسان
وغرائز حيوان !
ومع تقديري لتشبيه إمامنا ( الغزالي ) لهذه الحضارة بأن لها
غزائز حيوان ، بيد أنها تعدت غرائز الحيوان ، فالحيوان قد
يعرف الشبع ، أما هذه الحضارة المادية المتوحشة البشعة ، لا
تعرف الشبع ، فقد اتسعت معدتها علي حساب ضميرها وعقلها ،
وإحساسها بإنسانيتها ، وبشريتها !
هذه الحضارة صنعت طغمة مادية فاسدة استأثرت بخيرات العالم
، لا يتعدي هدفها بطونها ، وفروجها ، ومتعتها ، ولا هم لها إلا
أن تبقي مهيمنة ولو فني غيرها ..!
والقرآن الكريم ، يصوّر لنا مدي وحشية الإنسان وهمجيته ،عندما
يتردي في أسفل سافلين ، ويصبح أسير هواه وأنانيته..
" وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا
فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا
وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * " [البقرة: 204-206]
هكذا ، الإنسان إذا استأثرت به أنانيته ، وجاءته الفرصة وتمكّن ،
سعي في الأرض ؛ ليفسد فيها ، ويهلك الحرث والنسل ،وغلّب
مصلحته علي مصلحة أمته ، ولا يبالي أن يضحي بمَن في
الأرض – إن استطاع – في سبيل إشباع نزواته ومآربه ..
ولا مخرج للإنسان من هذه الصورة الوحشية البشعة ، إلا إذا
هاجر من " الأنا " إلي روح الجماعة ، وغلّب مصلحة أمته علي
مصلحته الذاتية ، وما عاش لنفسه ، وعاش لأمته ، وبذل في
سبيل رفعتها كل ما يملك ..!
ولذا ، انتقل القرآن من هذه الصورة المظلمة المتوحشة – السابقة
– إلي تلك الصورة المضيئة المشرقة ، التي ضحّت بكل شيء ،
وهاجرت ، تاركة وراءها الأهل والمال والوطن ، في سبيل أن
يسلم لها دينها وتسلم لها قيمها ..
" وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ
بِالْعِبَادِ " [البقرة:207]
إنّ الامم لا تنهض ، ولا تُعزّ ، إلا بإنسان رسالي ، انتصر علي نفسه ، واستعلي علي أنانيته ، يأبي الظلم والضيم ، يحيا لمبدئه ، ويجاهد من أجل فكرته ، ويعمل لصالح أمته ، ويسهر علي راحتها ، يضيء لها الطريق ، لتسعد ، ويسعد غيرها.
ولا غرو ، أن كانت هجرة النبي – صلي الله عليه وسلم – وأصحابه الكرام ، من دارأرباب الظلم والأثرة والأنانية ، إلي دار أنصارالحب والإيثار والتضحية..!
ولقد صوّر القرآن أنصار الحب والإيثار بصورة ، لم يشهد لها العالم مثيلا – من قبل ومن بعد – إلي اليوم ..!
" وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الحشر: 9]
تلكمُ صورة للمجتمع المثالي الذي أقامه الرسول – صلي الله عليه وسلم – علي الإخاء الكامل . – كما عبّر بذلك الإمام الغزالي رحمه الله – الإخاء الذي تُمحي فيه كلمة " أنا" ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها ، فلا يري لنفسه كيانا دونها ، ولا امتدادا إلا فيها..
حقاً ، ما أحوج الأمة والعالم أجمع إلي " الهجرة " من الصورة المادية الوحشية الطاغية ، التي أتت علي كل شيء في سبيل "الأنا " ، إلي تلك الصورة المثالية المضيئة المشرقة التي هاجرت كل شيء ، في سبيل تحرير الإنسان ، وإعلاء قيمته ، ونصرة الأخلاق والمباديء والقيم ، لتسعد الأمة والبشرية جميعا..
(*) باحث أكاديمي في الفكر الإسلامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق