في ذكرى وفاة جلال كشك
ذكرى وفاة الأستاذ الكبير العملاق، ذي القلم اللاهب والعقل الثاقب، ومن كانت له في حياته صولات وجولات عظيمة حفظت لنا أمورا وشؤونا وأحداثا ما كنا لنفهمها لولا أنه كتبها بقلمه. إنه الأستاذ محمد جلال كشك رحمه الله، وقد توفي بعد سكتة قلبية أصابته في مناظرة مع واحد من حثالات العلمانية في العصر الحديث، وذلك هو نصر حامد أبو زيد.. وكان الأستاذ جلال كشك قد كتب عنه فصلا في كتابه "قراءة في فكر التبعية" مسحه فيه مسحا!.. فلعل هذا أن يكون من حسن الخاتمة. يختنق في صدري الكلام عن جلال كشك الذي طوَّح كبير عصره، محمد حسنين هيكل، ولك أن تتخيل الجرأة في أن يتصدى كاتب صحفي مصري لمحمد حسنين هيكل في شدة سطوته وقوته، وأن يكون عصيا على هيكل -الداهية الكبير- الذي استطاع تطويع كثير من الأسماء الكبيرة الرنانة حتى وظفها أو استعملها أو وضعها تحت جناحه، ولكنه فشل تماما مع جلال كشك! كانت من أمنياتي التوفر على تراث جلال كشك وإصدار أعماله الكاملة، ولكن مع وقوع ثورة يناير ثم الانقلاب العسكري تغيرت الخطط كلها وانقلبت الحياة كلها أيضا.. فلعل شابا باحثا ينشط لهذا فيكسب من ذلك علما غزيرا لنفسه، ثم أجرا كبيرا عند الله وعند الناس. وسائر كتب جلال كشك مهمة ومفيدة، حتى تلك الكتب الثلاثة التي لم يُوَفَّق فيها وكانت من سقطاته، على أن أحسن كتبه على الإطلاق، فيما أرى، هي: ودخلت الخيل الأزهر، ثورة يوليو الأمريكية، قراءة في فكر التبعية. وجلال كشك عقل عبقري يكتب بقلم ملتهب، صحافي فيه من العمق والمعرفة بالتاريخ ما يتجاوز به الصحافيين، وله من المعرفة بالتفاصيل ما يتجاوز به المفكرين والمؤرخين، وحتى إسهاماته في الفكر الإسلامي -مع أنه لم يكن متشرعا- فاق فيها كثيرا من فطاحلة أهل العلم، لا سيما في مسائل شائكة عثروا فيها وكان هو -لمعرفته بطبائع الواقع والتاريخ والإنسان- أحسن نظرا وأبعد فهما وأبلغ تفسيرا وتحليلا.. كذلك فإن سلاسة قلمه وحسه الصحافي جعله يصوغ الموضوعات الفلسفية المعقدة بقلم لذيذ سهل فارق فيه غموض الاصطلاح الفلسفي وقارب به عموم القارئين. لئن كان من شيء وددت لو لم يكن في جلال كشك، فهي حدته التي لم تفرق أحيانا على من يحتد، فتناول بقلمه اللاذع بعض من ينبغي إعذارهم.. وسخرية لاذعة لن يفهمها إلا من كان له علم بالموضوع والحدث الذي يتناوله، فالسخرية بنت وقتها وبنت أهلها.. إذا قيلت لهم فهموها، فأما إذا جاوزها العصر والزمن صارت غير مفهومة وتحتاج إلى شرح لبيان موضع المفارقة والسخرية. عسى الله أن ييسر الوقت والفرصة لكتابة تفصيلة عنه، ولكم نقلت عنه في مدونتي وقناتي على تليجرام، ولكن لم أكتب عنه سوى مقالين فحسب:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق