فضل يوم الجمعة
إن كثيرا من الناس قد فرطوا في فضل الجمعة، ويفوتهم كثير من خيره وأجره؛ إما جهلا بفضله، أو استهانة بشرفه
من عظيم نعمة الله تعالى علينا أن كتبنا في آخر الأمم، وأرسل إلينا خاتم الرسل، وأنزل علينا آخر الكتب، وفضل أمتنا على سائر الأمم، وشرع لنا من الشرائع ما يكون سببا لنجاتنا من عذابه، وفوزنا بجناته.
وكما فضل سبحانه وتعالى هذه الأمة على سائر الأمم فإنه عز وجل هداها لأفضل الشهور والأيام والليالي والأوقات؛ ليعمرها العباد بطاعته وذكره، فتكفر عنهم سيئاتهم، وترفع درجاتهم.
ومن الأيام العظيمة التي اختص الله تعالى بها هذه الأمة: يوم الجمعة، وما فيه من عبادات عظيمة، وشعائر كبيرة، كان يسمى في الجاهلية يوم العَرُوبة، فسمي في الإسلام يوم الجمعة.
وقد دلت الأحاديث الكثيرة على أن الله تعالى قد هدى هذه الأمة المباركة ليوم الجمعة، وهو يوم عظيم عند الله عز وجل، وأضلته الأمم الأخرى فلم توفق لإصابته، وتعظيم الله تعالى فيه؛ حتى إن
اليهود لما فرض عليهم اختلفوا فيه فأضاعوه، فجعلوا مكانه السبت، وبقي هذا اليوم العظيم محفوظا لتختص به آخر أمة على سائر الأمم، وفي قول الله تعالى في شأن اليهود ﴿ {
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} ﴾ [النحل:124] قال قتادة رحمه الله تعالى: (أرادوا الجمعة فأخطئوا فأخذوا السبت مكانه). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «
نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد» وفي رواية لمسلم: (فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له قال:يوم الجمعة).
وروى حذيفة وأبو هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يومُ السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق» ولإجل ذلك حسد أهل الكتاب من اليهود والنصارى أهل الإسلام على اختصاصهم بالجمعة وهم قد ضلوا عنه؛ كما روت
عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «
إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على الجمعة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها» (رواه أحمد).
ولفضل هذا اليوم العظيم، ومنزلته عند رب العالمين؛ امتاز عن غيره من الأيام بمزايا عظيمة، واختص بفضائل وعبادات كثيرة؛ فهو عيد من أعياد المسلمين بقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن هذا يومَ عيد جعله الله للمسلمين» رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن يوم الجمعة يوم عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده».
ومن أعظم خصائصه، وأفضل مزاياه: اختصاصه بساعة يجاب فيها
الدعاء؛ كما روى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يُصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إيَّاه، وأشار بيده يُقللَّها» وفي رواية لمسلم قال: (وهي ساعة خفيفة).
وجاء في هذه الساعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها (ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة) كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنها: (آخر ساعة بعد العصر) وفي حديث ثالث قال عليه الصلاة والسلام: «إني قد كنت أعلمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر».
ويوم الجمعة يوافق يوم المزيد في
الجنة، حيث يجمع فيه أهل الجنة في وادٍ أفيح، ويُنصب لهم منابرُ من لؤلؤ، ومنابر من ذهب، ومنابر من زبرجد، وياقوت على كثبان المسك، فينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى ويتجلى لهم، فيرونه عياناً، ويكون أسرعهم موافاة أعجلَهم رواحاً إلى المسجد وأقربهم منه أقربهم من الإمام.
وفي حديث طويل عن أنس رضي الله عنه قال: عرضت الجمعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء جبريل في كفه كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء فقال: ما هذه يا جبريل قال هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ولقومك من بعدك ولكم فيها خير تكون أنت الأول ويكون اليهود والنصارى من بعدك وفيها ساعة لا يدعو أحد ربه بخير هو له قسم إلا أعطاه أو يتعوذ من شر إلا دفع عنه ما هو أعظم منه ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد.....إلى أن قال: فليسوا هم في الجنة بأشوق منهم إلى يوم الجمعة؛ ليزدادوا نظراً إلى ربهم عز وجل وكرامته؛ ولذلك دعي يوم المزيد) رواه الطبراني في الأوسط.
وهو أفضل الأيام وخيرها وسيدها؛ كما روى أوس بن أوس رضي الله عنه فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيامكم يومَ الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي» رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم. وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة».
وابتداء خلق البشر كان يوم الجمعة؛ فأبونا آدم عليه السلام خلق فيه، وقبضت روحه فيه، وصعق الناس يوم القيامة يكون يوم الجمعة، والنفخ في أرواحهم للحساب يوم القيامة يكون أيضا يوم الجمعة؛ كما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم عليه السلام، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة» (رواه أبو داود).
ولذلك تشفق سائر المخلوقات منه؛ فرقا من يوم القيامة، إلا بني آدم؛ كما روى أبو لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاه ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب، ولا سماء، ولا أرض، ولا رياح، ولا جبال، ولا بحر؛ إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة» (رواه ابن ماجه).
وروى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: (قدمت الشام فلقيت كعبا فكان يحدثني عن التوراة وأحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتينا على ذكر يوم الجمعة، فحدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه، فقال كعب:....أتدري أي يوم هو؟ قلت: وأي يوم هو؟ قال: فيه خلق الله آدم، وفيه تقوم الساعة، والخلائق فيه مصيخة إلا الثقلين الجن والأنس خشية القيامة...) رواه أحمد.
والوفاة يوم الجمعة أو ليلتها علامة خير للمؤمن؛ لما جاء في الحديث: «من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وُقِيَ فتنة القبر» (رواه أحمد).
والأعمال الصالحة فيه كالصدقة وغيرها خير من العمل في غيره من الأيام، قال
ابن القيم رحمه الله تعالى: (والصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع كالصدقة في شهر
رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور. ثم قال: وشاهدتُ شيخ الإسلام
ابن تيمية قدس الله روحه إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره فيتصدق به في طريقه سراً).
ومن أعظم ما اختص به يوم الجمعة: فرض هذه الصلاة العظيمة، وكان الأنصار رضي الله عنهم يقيمون الجمعة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؛ كما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك رحمه الله تعالى فقال: (كنت قائد أبي حين كُفَّ بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع
الأذان بها استغفر لأبي أسامةَ أسعدَ بنِ زرارة، فمكث حيناً على ذلك فقلت: إن هذا لعجز! ألا أسأله عن هذا؟! فخرجت به كما كنت أخرج فلما سمع الأذان للجمعة استغفر له، فقلت: يا أبتاه، أرأيتَ استغفارك لأسعدَ بنِ زرارة كلما سمعت الأذان يوم الجمعة؟ قال: أي بني، كان أسعدُ أولَ من جمَّع بنا بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هَزْم النَّبيتِ من حَرَّة بني بَياضة في نقيع يقال له: نقيع الخَضِمات. قلت: فكم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلاً) رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم وقال:على شرط مسلم.
وكان سبب اجتماعهم للجمعة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم ما روى عبد الرزاق عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: (جمَّع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة فقالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى أيضا مثلُ ذلك فهلم فلنجعل يوما نجتمع ونذكر الله تعالى، ونصلي ونشكره فيه، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وذكرهم، فسموه الجمعة حتى اجتمعوا إليه، فذبح أسعد بن زرارة لهم شاة، فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة؛ وذلك لقلتهم؛ فأنزل الله في ذلك بعد ذلك «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله» [الجمعة:9].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا كان مبدأَ الجمعة، ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بقباءِ في بني عمرو ابن عوف؛ كما قاله ابن إسحاق يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أولَ جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيس مسجده.اهـ
ومن خصائص يوم الجمعة فضيلة قراءة
سورة الكهف فيه، فقد جاء في الحديث: (أن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) وفي لفظ: (أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق) رواه الدارمي والحاكم.
ويوم الجمعة هو اليوم الذي يتواصل الناس فيه ويتزاورون، وفيه توصل الأرحام، ويوسع على الأهل والعيال، وفرح المسلمين به عظيم، ومنة الله تعالى عليهم به كبيرة، فنحمد الله تعالى على أن هدانا له، ونسأله سبحانه أن يوفقنا للعمل الصالح الذي يرضيه عنا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، إنه سميع قريب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9 - 10]
واجب على المسلم أن يشكر الله تعالى على ما اختصت به هذه الأمة من يوم الجمعة، وليس من شكر الله تعالى ما اعتاده كثير من الناس من الاستهانة بهذا اليوم العظيم، وعدم إعطائه حقه من الاهتمام والعناية والتعظيم، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمُ هذا اليوم وتشريفُه وتخصيصُه بعبادات دون غيره.
إن كثيرا من الناس قد فرطوا في فضل الجمعة، ويفوتهم كثير من خيره وأجره؛ إما جهلا بفضله، أو استهانة بشرفه؛ فليلة الجمعة يسهرون فيها إلى قبيل
الفجر، وسَهَرُ كثير منهم في مجالس تغشاها المحرمات من كل مكان، ولا يسمع فيها
ذكر الله تعالى إلا قليلا، وهذا السهر يفوت على كثير منهم
صلاة الفجر التي اختصت يوم الجمعة بفضيلة قراءة سورتي السجدة والإنسان.
وهذا السهر المشئوم يؤدي في الغالب إلى تأخرهم عن صلاة الجمعة، فكثير منهم لا يدرك تقريب دجاجة ولا بيضة، ومنهم من لا يحضر المسجد إلا وقد طوى
الملائكة صحفهم يستمعون إلى
الذكر، بل يبلغ التفريط ببعضهم أن تفوتهم صلاة الجمعة إما نوما، وإما خروجا إلى متنزهات وحدائق لا يخرجون إليها إلا يوم الجمعة، والناس في مساجدهم يسألون ربهم، نعوذ بالله من الحرمان والخذلان.
وبعض الناس يقصر في الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه عليه الصلاة والسلام حث المؤمنين على الإكثار من الصلاة والسلام عليه يوم الجمعة، وأخبرهم أن ذلك يصله ويبلغه، ولو أن أحد الناس أيقن أنه لو كتب كتابا إلى ملك من ملوك الدنيا لبلغه ذلك الكتاب، وكافأه عليه، أو رفع عنه مظلمته؛ لبادر لكتابته، وأحسن فيها أشد الإحسان، فكيف إذن بصلاة وسلام تبلغان خير الخلق، وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم؟!
وبعض الناس يقصر في الدعاء يوم الجمعة، ويغفل عن ساعة الإجابة فيه، فيسأل الناس ربهم حاجاتهم وهو غافل عن ذلك، وكل هذا التفريط يعد حرمانا عظيما، وخذلانا كبيرا، وفيه تفويت لأجور رتبت على هذه الأعمال الصالحة، فكم يخسر صاحبه من الثواب الجزيل!!
ألا فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، وأعطوا يوم الجمعة حقه من العناية والاهتمام، وفرغوا أنفسكم فيه لاكتساب الحسنات، وتكفير الخطيئات، بالتبكير إلى الجمعات، والمحافظة على الجماعات، والإكثار من الباقيات الصالحات، والإلحاح على الله تعالى في الدعوات.
وصلوا وسلموا على نبيكم....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق