حتى الملاحة في طريق رأس الرجاء الصالح قد تتوقفعامر عبد المنعم
تعيش الملاحة الدولية أسوأ أيامها مع اتساع دائرة التهديد لحركة النقل البحري لتشمل المحيط الهندي، الذي قد يترتب عليه تأثر الحركة في طريق رأس الرجاء الصالح الذي قررت شركات الشحن الدولية استخدامه بديلًا للبحر الأحمر، فلم يعد الحظر متعلقًا بمضيق باب المندب حيث يمنع الحوثيون السفن الإسرائيلية والسفن المتجهة إلى “إسرائيل” من المرور أيًّا كانت جنسيتها، احتجاجًا على حصار غزة والعدوان عليها.
من غير الواضح أن الولايات المتحدة التي تحشد أساطيلها في البحر الأحمر لديها خطة مقنعة لإعادة الملاحة إلى طبيعتها، فإدارة بايدن تصر على دعم الهجوم الإسرائيلي على غزة، وتؤيد الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون بالصواريخ والقنابل التي ترسلها واشنطن بشكل يومي إلى جيش الاحتلال، من أجل تدمير القطاع لتنفيذ خطة تنصيب حكومة تابعة بدلًا من حماس.
ولأن الأمريكيين يمنعون في مجلس الأمن صدور قرار بوقف إطلاق النار، ولا يسمحون بدخول المساعدات اللازمة لإغاثة الشعب الفلسطيني، وهي شروط الحوثيين، فإن الولايات المتحدة تسير في طرق مسدودة، لإعطاء الوقت للإسرائيليين لإنهاء مهمتهم المستحيلة، فالبنتاغون يغامر بالتلويح باستخدام القوة رغم ما قد يترتب على ذلك من تصعيد وإغلاق تام للمضيق، ولكن أمريكا فشلت حتى الآن في حشد تحالف دولي لمساعدتها في توجيه ضربات إلى اليمنيين.
المحيط الهندي لم يعد آمنًا
التطور اللافت هذا الأسبوع هو تعرُّض سفينة تجارية مرتبطة بـ”إسرائيل” لهجوم بطائرة مسيَّرة على بُعد 200 ميل بحري جنوب غرب سواحل الهند، ورغم أن البنتاغون ادعى أن الطائرات المستخدمة انطلقت من إيران فإن طهران نفت الاتهام الأمريكي، ويُعَد هذا الهجوم هو الأخطر منذ بداية الأزمة بسبب بُعد المسافة ودقة القذيفة الطائرة المستخدمة.
ويأتي استهداف السفينة في جنوب الهند ليزيد من مخاوف شركات الشحن التي قررت تغيير اتجاه الملاحة إلى طريق رأس الرجاء الصالح، وظنت أنها ستنجو من الخطر لحين وقف الحرب في غزة، ولكن وصول المسيَّرات إلى جنوب الهند أثار الفزع وجعل حركة النقل البحري في خطر شديد، فلم يعد التهديد خاصًّا بمضيق باب المندب والمنطقة المحيطه به، وإنما وصل إلى قلب طريق التجارة في المحيط الهندي.
الواقعة الثانية التي تهدد الملاحة في المحيط الهندي هي اختطاف سفينة صيد يمنية قبالة سواحل الصومال على بُعد 13 كيلومترًا شمال مدينة إيل. وأشارت هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية إلى أن السفينة قد تُستخدم في هجمات قرصنة في المستقبل. وللتحذير وصفت الهيئة البريطانية السفينة المخطوفة “إمارات-2” بأنها بيضاء اللون وطولها 17.7 مترًا وعرضها 4 أمتار والغاطس 2.1 متر، وقد جددت هذه الواقعة المخاوف من عودة القراصنة الصوماليين إلى واجهة الأحداث مرة أخرى.
إذا عادت عمليات اختطاف السفن بالقرب من الساحل الصومالي فإن طريق السفن الذي يمر أمام كينيا وتنزانيا ثم مضيق موزمبيق سيكون خطرًا، مما سيدفع شركات الملاحة إلى الابتعاد عن الساحل الشرقي لإفريقيا، والدوران من جنوب إفريقيا التي تحتاج موانئها إلى التطوير والمزيد من الوقود والبنية التحتية اللازمة لتموين السفن وصيانتها، وهذا يحتاج إلى وقت وليس على عجل كما هو المطلوب الآن.
قرار ماليزيا ومضيق “ملقا”
ولأن الغضب على العدوان الإسرائيلي أكبر مما يمكن احتواؤه، كان التطور الأهم في موضوع الملاحة هو قرار الحكومة الماليزية يوم 20 ديسمبر/كانون الأول “منع السفن الإسرائيلية والسفن التي ترفع العلم الإسرائيلي من الرسو في موانئها، وحظر أي سفينة متجهة إلى إسرائيل من تحميل البضائع في الموانئ الماليزية”.
وقال رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم “هذه القيود رد علني على تصرفات إسرائيل التي تتجاهل المبادئ الإنسانية الأساسية، وتنتهك القانون الدولي بالمجازر الوحشية المستمرة ضد الفلسطينيين”. وأشار إلى أن “الحكومة قررت أيضًا منع سفن شركة الشحن الإسرائيلية ‘زيم’ من الرسو بأي ميناء في ماليزيا، وإلغاء جميع قرارات مجلس الوزراء السابقة التي كانت تسمح لها بالدخول”.
ويُعَد القرار الماليزي أقوى إجراء تتخذه دولة إسلامية منذ بداية العدوان، وتأتي أهميته للموقع الجغرافي لماليزيا، فهي تطل مع إندونيسيا على “مضيق مالقا” الذي يربط بين المحيط الأطلنطي وبحر الصين، ويبلغ طوله 800 كيلومتر، ويتحكم في مرور 40% من حجم التجارة العالمية، وتمر فيه 50 ألف سفينة سنويًّا، ومن خلاله تعبر السفن القادمة من المحيط الهادي إلى المحيط الهندي.
يشكل قرار ماليزيا صدمة للإدارة الأمريكية، فهو يخيف الكثير من شركات الشحن العالمية التي تتعامل مع الكيان الصهيوني، ويحوّل “إسرائيل” إلى كيان منبوذ، ويوسع من دائرة التحدي الذي يواجه الرئيس الأمريكي الذي يصر على موقفه الداعم لـ”إسرائيل”، فحظر الملاحة صدر من دولة مؤثرة في جنوب شرق آسيا، وقد يشجع موقفها في حال استمرار الحرب على دخول دول إسلامية أخرى، مما يقوض الجهود الأمريكية التي تحاول التقليل من حجم التهديد للملاحة وتصويره على أنه خرق للقانون الدولي في جنوب البحر الأحمر فقط ويمكن القضاء عليه.
شركات الملاحة وتحديات صعبة
معظم شركات الملاحة لها ارتباطات بالإسرائيليين، ولم يعد من الصعوبة معرفة كل المعلومات والبيانات المتعلقة بملكية السفن ورحلاتها وتاريخها الملاحي، ولهذا فإنه يصعب على شركات الشحن البحري إثبات عدم تعاملها مع الإسرائيليين، وقد بدأت السفن العابرة من باب المندب إخفاء هوياتها ووجهاتها حتى لا تتعرض للسيطرة عليها أو القصف بالطائرات والصواريخ الحوثية.
إذا استمر تهديد الملاحة في المحيط الهندي فهذا يعني توقف الحركة في رأس الرجاء الصالح، أي توقف حركة السفن المتجهة من آسيا إلى أوروبا والأمريكتين والعكس، وليس فقط توقف الحركة المتجهة إلى “إسرائيل”، وهذا يشكل تهديدًا غير متوقع وغير محتمل للأوروبيين الذين لم يتعافوا حتى الآن من آثار الحرب الروسية الأوكرانية وتوقف ضخ الغاز والنفط الروسي وإغلاق طرق النقل في الشمال.
هذا القلق الأوروبي كان وراء فشل الولايات المتحدة في تشكيل التحالف العسكري لحماية الملاحة في البحر الأحمر، إذ رفضت إيطاليا وفرنسا المشاركة تحت القيادة الأمريكية، ونفت الحكومة الإسبانية الانضمام، وأعلنت أن الأمريكيين وضعوا اسم إسبانيا في قائمة التحالف دون الرجوع إليهم، ورفضت النرويج وهولندا المشاركة بسفن حربية، وأرسلت عددًا محدودًا من الضباط إلى القيادة الأمريكية في البحرين.
إذا استمرت الولايات المتحدة في موقفها الداعم للعدوان على الفلسطينيين فستجد نفسها منبوذة وسيتخلي عنها كل حلفاؤها، وستتسع حركة الاحتجاج الدولي حتى تصل إلى النقطة التي لا تستطيع الإدارة الأمريكية تحمّلها، فاستمرار الحرب يؤدي إلى تحولات عالمية تحت الضغوط الشعبية.
إذا استمر العدوان فلن يستطيع أصدقاء أمريكا الصمود أمام شعوبهم، حتى في العالم العربي والإسلامي حيث موجات الغضب تتراكم ولن يقف أمامها أحد، وبدلًا من تعطيل الملاحة في مضيق واحد قد نرى الشلل يصيب حركة النقل في 5 مضائق تقع في العالم الإسلامي، وهي بجانب باب المندب كل من هرمز وملقا وقناة السويس والبوسفور، وسيترتب على هذا توقف حركة النقل البحري في معظم أنحاء العالم.
قد يرى الأمريكيون أن اتساع ردود الفعل الجادة على مواقفهم المعادية لكل القيم الإنسانية بعيدة، لكن ها هي التطورات في غزة ومحيطها وفي طرق الملاحة تؤكد أن هزيمة “إسرائيل” ومَن وراءها قريبة، وقريبة جدًّا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق