ماذا تفعل الحرب على غزة بالأخلاق الفردية؟
بقدر ما في الانخراط الكثيف في مواقع التواصل الاجتماعي من انعزال عن الواقع الاجتماعي المادي، فإن فيه تعرضا كثيفا للأذى يبدو التعامل معه أصعب من التعامل مع المشكلات الناجمة عن الخلطة في الواقع المادي، وهو ما يستدعي معاني جديدة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" (صحيح الجامع)، وإذا كان هذا الحديث لا يعني المخالطة السلبية، أي لا يعني التلقي المستكين المجرد عن فعل المدافعة للأذى، فإنه لا يعني كذلك توسيع دوائر الأذى النفسي، بتوفير الجمهور المجاني لخطاب التحطيم، وهذا واضح في قوله تعالى: ﴿وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا﴾ (النساء: 140)، وفي العتاب القرآني لبعض المؤمنين الذين يسمعون حديث الإرجاف بما من شأنه أن ينعكس على سلامتهم النفسية وعلى تماسك الجماعة المؤمنة في الموقف الصحيح: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين﴾ (التوبة: 47).
التكسب المعنوي أو المادي، في حدث تمتزج فيه الفجيعة بالفروسية، يفترض أن يكون الوعي الذاتي بخصوصه أكثر توترا، حتى في الكسب الطبيعي، الناجم عن طبيعة الاشتغال الأصلي، كأن يكون المرء صحفيا أو إعلاميا يغطي الحدث، بالرغم من أنه في حال كان في الميدان
يتفاحش مثل ذلك الأذى في القضايا شديدة الوضوح من حيث عدالتها وامتياز أطرافها واستبانة الحق فيها خالصا من الباطل، والتي تستوجب موقفا أخلاقيا صريحا لا يحتمل أدنى إشارة بالانحياز عن المظلوم صاحب الحق، وهو الأمر المتجلي، تمام التجلي في القضية الفلسطينية، لا من جهة عدالتها فحسب، بل ومن جهة نتائجها، على الضمير الإنساني، ومن باب أولى ضمير المؤمن، الذي يفترض فيه أنه أشد حساسية أخلاقية، بما ينتهي به إلى الانفعال الإيجابي على مستوى التغير الذاتي، لكونه الأكثر امتحانا بسؤال الواجب والمسؤولية، ومن ثم الشعور بالتقصير، ومن ثم محاولة تعويض هذا التقصير بالاستقامة الأخلاقية المرتفعة إلى مستوى المثالية في العدالة للقضية، والتي هي في هذه الحالة، القضية الفلسطينية.
كل ذلك يتعاظم، أي الحمولة الأخلاقية للقضية والاستجابة المفترضة لها، في حرب كهذه التي يصبها العدو على غزة، من حيث استبانة الجريمة وفداحة المظلومية، لتجتمع في المشهد، الفجيعة والفروسية في آن واحد، وإذ كان صمود الفلسطينيين، وإظهارهم المفاهيم الإيمانية، من قبيل الصبر والرضا والتسليم، معاني مختلطة في كينونة الواحد منهم تعقلا وإحساسا، قد نبهت غربيين كثر بحثوا عن السر خلف ذلك، كما هو رائج في بعض تطبيقات التواصل الاجتماعي، لاسيما تطبيق "تيك توك"، فإن صور الحرب كلها أقوى نداء، وأعلى صوتا، وأحد مظهرا، في قصدها ضمير الأقرب إليها، وألصق بها من العرب والمسلمين.
لكن، لن يخلو الأمر وبنحو صادم، من مسلكية استثمارية في الفجيعة، مما ينم عن بلادة أخلاقية مروعة، وعن نفس مغلفة إزاء نداءات الفجيعة والفروسية في الحرب، وما ينبغي أن تتركه على النفس المتسمة بالوعي الأخلاقي بواجبها من التمثل الذاتي ابتداء، والذي هو مثل أضعف الإيمان، أي مما لا بد من وجوده تأسيسا، صعودا إلى المساهمة الخارجية في الخطب الواقع على جماعة من المظلومين، هم في هذه الحالة أهل غزة.
من مشاهدات التكسب البليد في هذه الحرب، اقتراف الإشاعات، وادعاء التواصل مع المقاتلين ونقل المعلومات الحصرية من الميدان، واجتراح الأخبار الكاذبة، والترجمات المحرفة المفتعلة بالكامل لإعلام العدو وصحافته، وليس الهدف من ذلك، كما هو واضح، إلا تعظيم الحسابات والقنوات الإلكترونية، وزيادة التفاعل معها، وإشهار النفس
التكسب المعنوي أو المادي، في حدث تمتزج فيه الفجيعة بالفروسية، يفترض أن يكون الوعي الذاتي بخصوصه أكثر توترا، حتى في الكسب الطبيعي، الناجم عن طبيعة الاشتغال الأصلي، كأن يكون المرء صحفيا أو إعلاميا يغطي الحدث، بالرغم من أنه في حال كان في الميدان، فمن المحتمل أن يكون في جملة ضحايا الحرب، كما في هذه الحرب، أو أن يكون معقبا على الحدث، بوصفه مثقفا أو باحثا أو كاتبا، وهو من المرشحين لدفع الثمن إن كان في فلسطين، أو في بلاد تمنع حتى إظهار الانحياز غير المتردد للفلسطينيين، فكيف إن كان التكسب قصديا وبالكذب والادعاء؟!
من مشاهدات التكسب البليد في هذه الحرب، اقتراف الإشاعات، وادعاء التواصل مع المقاتلين ونقل المعلومات الحصرية من الميدان، واجتراح الأخبار الكاذبة، والترجمات المحرفة المفتعلة بالكامل لإعلام العدو وصحافته، وليس الهدف من ذلك، كما هو واضح، إلا تعظيم الحسابات والقنوات الإلكترونية، وزيادة التفاعل معها، وإشهار النفس، سواء كان ذلك بغرض التكسب المادي أو المعنوي، على ما في ذلك من إضرار محقق بالحقيقة وغش للجمهور وبما قد يفضي إليه من أذى نفسي، في حين أن الفجيعة المصحوبة بالدمار والخسارات الهائلة ينبغي أن تضعف من دافع التكسب الدنيوي في نفس الإنسان الذي يراقب تلك الفجيعة من بعيد، والفروسية الفذة الفقيرة من كل شيء إلا الدافع الإيماني والواجب الطليعي والمسؤولية الرسالية، والإرادة الخالصة لسد الثغور والدفع بالنفس عن الناس، ينبغي أن تشعر من كان خارج الميدان بحقيقة قصوره، وغبش تطلعاته، وأن تثير فيه خلق التواضع، وهو الأمر الذي يعود بالقضية إلى التمثل الذاتي، فإن الدرجة التي لا بد منها في حادثة جسيمة كالحرب على غزة، هي التطهر الأخلاقي الذاتي، فالمجاهدة لأجل هذا التطهر ممكنة، في حال كانت المساهمة الخارجية تجاه الحدث نفسه محدودة، والمجاهدة لا تعني إمكان التطهر الكامل، ولكنها تعني ضرورة الشعور الكامل بالنقص والقصور، أي الإدراك المتصور بدقة لعيوب النفس، ثم البدء بمجاهدتها، وكبح اندفاعاتها، والقبض على شهواتها، وفي الأثناء لا بد من الفشل والتعثر والنسيان والفتور، إلا أن المهم هو ذلك الإدراك لحقيقة النفس، وذلك الامتناع عن التكسب من فجائع الآخرين، والصعود الرخيص على فروسيتهم.
من صور البلادة الأخلاقية الانحياز للظالم ولوم الضحية واتهامها، واقتراف الأكاذيب عنها، وإثارة النعرات الإقليمية والجهوية ضدها، وفي القعر الأدنى من ذلك توظيف الدين على الضد من حقيقته لاتهام الضحية
في الحديث الشريف: "أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، ويتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء"، والشاهد هنا أن هذا الفقير الذي وقى بنفسه غيره من المكاره، وسد بنفسه عن غيره الثغور، يموت وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، وهو الأمر الذي يحاكم من يسعى، للاستثمار في فروسية ذلك الفقير، لأجل تحقيق الأغراض الشخصية، فكيف إن كان ذلك بالكذب والادعاء؟!
لا تقتصر صور البلادة الأخلاقية على ذلك، فأفحشها جرما الانحياز للظالم ولوم الضحية واتهامها، واقتراف الأكاذيب عنها، وإثارة النعرات الإقليمية والجهوية ضدها، وفي القعر الأدنى من ذلك توظيف الدين على الضد من حقيقته لاتهام الضحية، في قضية لا يمكن أن تتلبس عدالتها شائبة، وفي الأثناء، يمكن ملاحظة الكثير من الادعاء والمزايدة ممن ضمن لنفسه الأمن من دفع الثمن، فكيف إن كان ذلك شأن من ترك الميدان أصلا مختارا؟!
مثل ذلك مما يوهن الإنسان بالحزن والحيرة الملتاعة، إلا أن القوة، والحالة هذه، هي قوة إغلاق منافذ الوهن، والانخراط الإيجابي في الممارسة الأخلاقية التي تسعى لتمثل القيمة الأخلاقية للحدث نفسه، وهو ما يعني تعظيم الخير في مواجهة الشر، والتحقق الظاهر بالتواضع وعدم الرضا عن النفس بدلا من الادعاء، والتدقيق في مقاصد الكلام، ومحاصرة المتكسبين والأدعياء والمرجفين بالامتناع عن الاستماع لهم، وكشف خطابهم بما يصغرهم ويعريهم، لا بما يكثرهم وينشر إرجافهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق