الجيوش والمواقف.. إن لم يكن الآن فمتى؟
عدم قدرة العقول على استيعاب ما يحدث، ليس فقط بسبب رعب الهجمات الوحشية، ولكن أيضًا بسبب موافقة بقية العالم على هذه الإبادة بكل وحشيتها وبربريّتها.
إنه عجز يجعل العقل في حالة ذهول، إذ فجأة تنكشف حقيقة أن كل هذه الانتقادات والمناشدات من قبل المعارضين، وكل هذا التنديد، وكل هذه المواقف من المؤسسات والأفراد لا تكفي لإيقاف إسرائيل والقوى التي تقف خلفها، أو حتى لجعلهم يترددون أو يتراجعون عن هذا النمط من الوحشية والجنون.
في وقت لم يستطع فيه أحد أن يقول لإسرائيل: "كفى"، كانت خطوة أردوغان الثورية في "دافوس"، حين واجه شيمون بيريز بالقول: "أنتم تعرفون كيف تقتلون جيدًا!"، كان تحرُّكه هذا تحركًا جريئًا جدًا في ذلك الوقت
مواصلة إسرائيل جرائمها- دون أن تأبه بجميع الانتقادات، والإدانات والاحتجاجات، بل حتى المقاطعات الموجهة ضدها – تجعل هذه الأعمال بعد فترة -للأسف – تفقد معناها.
هنا يطرح السؤال نفسه: هل يمكن الوصول لطريقة أكثر فاعليَّة؟ هل من نقاط قوة يمتلكها العالم الإسلامي ويمكن بها أن يوقف هذه المجازر؟
اتّضح لنا أن إسرائيل لا تعترف بالقانون، ولا بالإنسانية، ولا النقد، ولا الاحتجاج. الولايات المتحدة الأميركية- التي تدعم إسرائيل بكل قوتها- لا تهتم أيضًا بما يقوله العالم، ولا تكترث حتى لحالات التناقض مع مزاعمها وادعاءاتها كراعية للقيم الإنسانية والحرية والديمقراطية. لذلك، تذكيرها باستمرار بقيمها وقواعدها الخاصة، لا يعود بأي معنى أو نتيجة. هي في حالة عَمِيت فيها بالدماء، وفقدت العقل، وأظلمت الضمير.
لذلك، حتى ردود الفعل الشديدة من الأشخاص الذين ينتقدون إسرائيل بشدّة – بما في ذلك ردود الفعل الواضحة دائمًا من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تجاه القضية- أصبحت تُرى على أنها غير كافية من قبل أولئك الذين يبحثون عن حل أكثر فاعلية لفلسطين. الجميع أصبح مدركًا أن هناك ما هو أكثر من المناشدات، ويجب فعله على الفور؛ لإيقاف إسرائيل والولايات المتحدة التي تدعمها بلا حدود.
في وقت لم يستطع فيه أحد أن يقول لإسرائيل: "كفى"، كانت خطوة أردوغان الثورية في "دافوس"، حين واجه شيمون بيريز بالقول: "أنتم تعرفون كيف تقتلون جيدًا!"، كان تحرُّكه هذا تحركًا جريئًا جدًا في ذلك الوقت، وقد خلق صدمة في إسرائيل وحول العالم؛ لأنه حتى ذلك الوقت لم يجرؤ أحد على الذهاب إلى هذا الحد.
لذلك، كان هذا الموقف بمثابة نقطة تحول حقيقية في السياسة المتعلقة بإسرائيل، وأدّى إلى ظهور وعي وحالة روحية جديدة في العالم الإسلامي بأسره. حتى إن هذه الخطوة قد بوَّأت أردوغان مكانةً فريدة في قيادة العالم الإسلامي. واليوم، الجميع مرة أخرى ينتظرون خطوة فعّالة ضد هذه الإبادة الرهيبة، ويتوقعونها من أردوغان مرة أخرى، ومن زعماء العالم الإسلامي الحقيقيين.
في هذا الشأن ليس فقط تركيا هي من يجب عليها التحرك وأخذ موقف، بل كل العالم الإسلامي، وخاصة دوله الكبرى ذات الحضور الإقليمي، يجب أن تشارك في هذه العملية. قد تكون الإمكانات محدودة وغير كافية لكل من تلك الدول بمفردها، لكن عليها أن تعلمَ أنه لا يوجد شيء لا يمكنها فعله معًا. هناك أزمة حقيقية موجودة، وأولئك الذين يمكنهم إيجاد طريقة للخروج من هذه الأزمة، سيكونون قد فتحوا لأنفسهم مجالًا حقيقيًا لقيادة العالم الإسلاميّ.
لنتذكر أنَّ الملك فيصل بن عبد العزيز- الذي دعا إلى مؤتمر القمة الإسلامي عقب الهجوم على المسجد الأقصى في عام 1969- قد حصل على مكانة مهمة جدًا ليس في السعودية فقط، بل في العالم الإسلامي كله. وقد وصل إلى هذه المكانة بشكل خاص بعد الحظر النفطي الذي بدأه في عام 1973؛ ردًا على الدعم غير المشروط، وغير المحدود الذي قدمته أميركا لإسرائيل خلال الحرب العربية- الإسرائيلية.
بفضل الثقة الكبيرة التي أعطاها لمسلمي العالم- بأنهم ليسوا بلا حماية ولا يائسين- اكتسب الملك فيصل مكانة مرموقةً جدًا في العالم الإسلامي باسمه وباسم بلده المملكة العربية السعودية.
قام هنري كيسنجر أحد مهندسي السياسة الخارجية الأميركية، والمركزة على إسرائيل في الولايات المتحدة – الذي تُوفي مؤخرًا عن عمر يناهز المائة عام، وكان له تأثير كبير على علاقات إسرائيل مع جيرانها العرب- بزيارة الملك فيصل خلال استمرار الحظر النفطي، وكان الحوار الذي دار بينهما خلال الاجتماعات أسطوريًا، عندما قال الملك فيصل: "إذا توقّفتم عن دعم إسرائيل، ينتهي الحظر"، هدد كيسنجر بقصف آبار النفط، فردّ عليه الملك فيصل بهذا الرد المفحم الذي لن ينساه التاريخ ولا الأجيال المتعاقبة:
"بالطبع يمكنكم قصف آبار النفط لدينا. لكن لا تنسوا أننا وأجدادنا كنا نعيش في الخيام، نتغذى على التمر وحليب الإبل، ويمكننا العودة والعيش في الخيام مرة أخرى؛ لكنكم الآن لا تستطيعون العيش بدون النفط".
مهما كانت الأشياء التي تخيف القادة في العالم الإسلامي من قبل الولايات المتحدة أو إسرائيل، يجب على هؤلاء القادة التغلب على هذه المخاوف، وأن يدركوا أنه لا ضرر يمكن أن يأتي منهما يستحقّ الخوف. الخوف لا يأتي من قوة العدو، بل من الاعتمادية الذاتية للإنسان والمجتمعات.
لذا يجب أن نتمعَّن في الدروس العظيمة التي يقدمها أهل غزة هذه الأيام لكل البشرية، لنتعلم كيف لا نخاف من أحد سوى الله. بهذه الطريقة يمكن للجميع التغلب على الخوف غير المبرر. يجب أن ندرك أن الحساب الذي سيقدمه لكم الآلاف من الأطفال الفلسطينيين- الذين قُتلوا بوحشية في المهد، والذين لم يعيشوا طفولتهم- سيكون أثقل وأدوم، وهو الحقيقة الوحيدة، مقارنة بأي حساب قد تقدمه لكم الولايات المتحدة، أو إسرائيل.
لا يمكن لأحد أن يجلس في تلك المقاعد بكرامة دون أن يتعرض للكلمات المتعجرفة لقاتل الأطفال نتنياهو: "إذا كنتم تريدون حماية مقاعدكم، اخرسوا وشاهدوا ما يحدث".
على قادة هذه الدول الكبرى في العالم العربي- بحضورها السكاني والتاريخ المتجذّر في الأرض – أن يدركوا أن التصدي لهذا العدوان الإسرائيلي والقوى التي تدعمه يمكن أن يضعهم على مسرح التاريخ بين الزعماء الكبار.
وإلا فإن عليهم أن يتساءلوا: متى سيدخلون التاريخ؟ ولأي غرض سيتم استخدام الجيوش والأسلحة والأموال التي جمعوها حتى الآن، إذا لم يكن اليوم، متى؟ وماذا لو لم يكن لحماية العرب المسلمين الذين تعرضوا للإبادة الجماعية؟ إن لم يكن من أجل القدس أو المسجد الأقصى، فماذا إذن؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق