المتعاونون الذين كشفهم طوفان الأقصى
لم تكن مفاجأة كبيرة تلك التي أعلنتها المقاومة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الماضي حينما أعلنت أن المقاومين الذي اجتاحوا المستوطنات الصهيونية وأماكن القيادة في غلاف غزة قد حصلوا على وثائق هامة جدا، ومن أخطر ما جاء في هذه الوثائق قوائم بالكثير من الشخصيات في البلاد العربية بينها مسؤولون في بعض الأنظمة، وشخصيات عامة سياسية وإعلامية، ومفكرون، وأكاديميون يتعاونون مع العدو الصهيوني من خلال القيام بأدوار متنوعة منها الحصول على معلومات وتسريبها إلى العدو، وهؤلاء يعرفون في الصراع بين الدول المتحاربة أو المتعادية بالجواسيس، وبالتأكيد وجود مثل هؤلاء الجواسيس ليس جديدا على تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وخاصة في مصر وسوريا تحديدا، ومن المؤكد أن هناك الكثير منهم في فلسطين منذ قيام دولة الاحتلال وعلى مدار القرن الماضي.
ربما كان هناك جواسيس في مقدمة العصابات الصهيونية منذ وعد بلفور عام 1917 حتى قيام الدولة الصهيونية 1948 هؤلاء الذين شكلوا ما يسمى بالطابور الخامس للمحتلين في كل الأزمنة وعلى مدار التاريخ، فسقوط الدول تحت الاحتلال يسبقه دائما هذا الطابور من أبناء تلك الدول، وما كانت معظم الدول لتسقط بدون هؤلاء الذين يؤدون دورا في إحباط المجتمعات وتفتيت قيمها وأخلاقها، وصولا إلى التشكيك في الواقع والاستسلام لفكرة الاحتلال، والقادم الذي يحمل الرخاء للمقهورين الذين يعانون تحت القهر الداخلي سواء كان قهرا اجتماعيا أو سياسيا.
عندما نقلب صفحات التاريخ العربي والإسلامي سنجد أن أهم صراع قادته الدول الاستعمارية الغربية مع العالم الإسلامي والعربي هو زراعة الجواسيس والعملاء في الأرض العربية وداخل أركان الخلافة وبين أبناء الشعوب.
بدأ ذلك بعد قيام الدولة الإسلامية مرورا بكل الحملات الصليبية والصراع الذي حمل راية الصليب على مدار قرون امتدت من القرن السادس الميلادي حتى القرن العشرين عندما انتهت الخلافة الإسلامية 1924.
بعد ذلك مع وجود الدول الوطنية كان على الطرف الآخر في الصراع أن يضمن ولاءات داخل المجتمع العربي والإسلامي تمنع قيام دول كبرى قوية تستعيد عافيتها في الصراع العربي الغربي، سواء في استمرار حكم الدول الاستعمارية التي حلت محل دولة الخلافة الإسلامية في حكم البلاد، أو في التمهيد لانسحابها العسكري وزرع الكيان الصهيوني في المنطقة، واستكمال الدور بالسيطرة الثقافية وتفتيت الوحدة الثقافية القائمة المسيطرة على دول العالم العربي والخلافة الإسلامية سابقا، وتلك أخطر المهام التي قام بها المتعاونون أو العملاء على مدار التاريخ، فوحدة الثقافة هي محور وحدة العالم العربي والإسلامي وفي نجاح الغرب في تفتيتها نصبح كما ترى الآن.
أنواع المتعاونين
قد يتراءى للبعض أن فكرة المتعاونين تحدث فقط حينما يكون هناك صراع تاريخي كبير كالصراع العربي الصهيوني، أو الصراع بين الغرب الصليبي والإسلام، أو الصراع بين الأفكار الكبرى كالصراع السوفيتي الأمريكي والثنائية القطبية في العالم، أو ما شهده العالم من حربين عالميتين، أولى، وثانية، فتلك الصراعات وجواسيسها، وعملاؤها علامات مشهورة ومرصودة في تاريخ العمل السري، ولك أن تعود إلى مئات الكتب والمقالات والأفلام الروائية والتسجيلية التي رصدت مثل هذه الحالات والآلاف من أعمال التخابر والجاسوسية في الصراعات العالمية.
ولكن فكرة المتعاونين أو العملاء وُجدت أيضا في المجتمعات وخاصة مجتمعات الاستبداد لتنتقل إلى داخل المؤسسات الحكومية؛ وذلك لرصد أي محاولات لمقاومة الاستبداد أو الظلم سواء كان اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا.
انتشرت فكرة الطالب المخبر الذي يتم تجنيده بين الطلبة في الجامعات ليرشد إلى زملائه أصحاب النشاط السياسي، وقد اشتهر باسم المرشد. وينتقل هو ذاته بعدما يأخذ مكافأته ويتم تعينه في إحدى المؤسسات الكبرى مثل الخارجية أو الداخلية أو المؤسسات الإعلامية ليصبح مرشدا ومخبرا عن زملائه في هذه المؤسسات، ويظل ينتقل من مؤسسة إلى أخرى ومن مسؤول إلى آخر حتى يجد فرصة كبرى ويصبح عميلا متعاونا مع الأعداء.
التركيبة النفسية للمتعاون أو المخبر السري أو الجاسوس هي تركيبة تشوهت وضعفت حتى أمكنت السيطرة عليها واستخدام نقاط الضعف والتشوهات النفسية في أساليب التحكم والسيطرة على العميل. استخدام الضعف الإنساني والنفسي أهم ما في عملية التجنيد، لكن أهم نقاط السيطرة هو التشكيك في المفاهيم الدينية والثقافية للمجنَّد، وتسريب الشكوك في المجتمع وقيمه ومبادئه، وزيادة النزعة الفردية داخل الشخصية المختارة للتعاون، ودفعها إلى محاولة التخلص من تشوهاتها النفسية والنقص الاجتماعي لديها، وإغراؤها بمزايا تجعلها تعوض النقص الداخلي وتشعر بأنها أصبحت متميزة بين مجتمعها، والذين استصغروها يوما ما.
المتعاون الأخطر في التطبيع
قد يكون التساؤل المطروح لدى البعض لماذا يتم تجنيد متعاونين أثناء ما يسمى بالسلام بين الكيان الصهيوني والدول العربية، خاصة أن ما يقارب 20 دولة عربية قد اتخذت خطوات واسعة نحو التطبيع مع العدو الصهيوني بدأتها علانية الدولة العربية الكبرى مصر بعد معاهدة السلام واتفاقيات كامب ديفيد، ثم توالت العلاقات مع الكيان الصهيوني بالتوازي مع ما سمي بمسار السلام العربي الإسرائيلي، إذن ما الحاجة إلى كل هذا الكم من المتعاونين الذين سعى أو يسعى الكيان الصهيوني لتجنيدهم والاحتفاظ بقوائم لهم في أماكن سرية؟
الواقع أن الأدوار التي يؤديها المتعاون في الأوقات الهادئة وفي أوقات السلم أكثر أهمية من تلك التي يؤديها في أوقات الحروب؛ فأهم دور يلعبه هؤلاء هو التشكيك في الوحدة الثقافية للمجتمع ووحدته في مواجهة أعدائه.
حينما يتجه المجتمع نحو الوحدة الثقافية أو الدينية يقف هؤلاء أمام هذه الوحدة ليفتتوا المجتمع ويؤدوا الدور الأكبر في تشتيته، ومن ثم يشككون في تاريخ شعوبهم، ويبدؤون عبر مرحلة زمنية في تشويه هذا التاريخ وشخصياته، وكل ملمح نضالي أو مقاوم في هذا التاريخ، ومن هنا نجد صراعاتهم مع لحظات التفوق العربي أو الإسلامي فيحولون انتصارات الأمة إلى هزائم وأبطالها إلى شخصيات مشوهة، يشككون في معاركها وبطولاتها.
تشويه التراث الفكري هو الهدف الثاني الذي يقوم به العملاء للأعداء، وهنا يأخذون الدور الكبير في الانتقال من التشكيك في صحة التراث إلى إعادة قراءته، ثم الانتقال إلى تنقيته، وكتابته مرة أخرى، وعند هذه المرحلة وبعد أن تقوم وسائل الإعلام بحملة كثيفة متماشية مع تلك الحملات يصبح هناك حالة من التردد الفكري والهزات لدى أفراد المجتمع والشعوب.
يسود المجتمع نوع من التخبط، ليظهر الفكر الغربي أو المعادي أنه النجاة من تلك الحالة؛ وبذا تتحقق الحالة التي يسعى إليها العدو حينما يتقبل المجتمع أو أغلبيته أفكار وقيم هذا العدو، ويصبح استقبال هؤلاء كفاتحين أو قوارب نجاة واقعا نعايشه، ولا أخفيكم سرا أن نجاحا كبيرا قد أصاب خطتهم.
لذا فإن ما حققه طوفان الأقصى مهمّ جدّا حينما أعاد إلى الذهن العربي والإسلامي، بل والعالمي مفاهيم المقاومة، والنضال والإيمان، والحق العربي الفلسطيني، والتضحية، والفداء، والجهاد، والاستشهاد.
لقد دمّرت عملية طوفان الأقصى جهد سنوات طويلة من عمل المتعاونين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق