من رمضان الماضي.. إلى رمضان الحاضر!
من وحي الأيام:
أي ضيف.. أي شهر…؟!
هذا المُترعُ بركة وروحانية..
أي سر خُص به، فجعله سيد الشهور.
وأي فضل حباه الله به.. فإذا أبواب الرحمة والمغفرة والعتق من النار مفتوحة فيه على الرحاب..
شهرٌ يَفِيض خيرا، وينشر السعادة، ويوزع الحسنات والبركات..
شهر لو وضع خيره في كفة، وخير الشهور كلها في كفة.. لرجحت كفة هذا الشهر، وطاشت الأخرى..
فهذا الشهر ليس كبقية الشهور.. بل له ميزة على جميع الشهور، وفضلٌ عليها مما لا يخفى على أحد من المسلمين، فهو شهر نزل فيه القرآن، وحسبه ذلك فضلا على الشهور.
فكأنه – شهر رمضان – واسطة العقد، وبيت القصيد، والدرة اليتيمة في التاج.
كم سعداء نحن – أبناء الإسلام- الذين يستقبلون -مرة أخرى- رمضان (الجديد) الكريم… ضيفا سنويا حبيبا، ضيفا ربانيا مباركا..
وما أكرمه من ضيف.. وما أعجبه من ضيف.. في نفس الوقت…!
الضيف يأتي ليكلف المضيف… يشاركه في طعامه وشرابه.. وقد يؤثر على راحته وأعماله الروتينية، ولكن – مع ذلك -لا يستثقل الإنسانُ الكريمُ ضيفَه.. بل يرحب به ويعتبر قدومه بركة له.
ولكن هذا الضيف الرباني السنوي.. إن أمره -والله- لعجيب.. بل لغريب.. يأتينا لا ليرزءنا أو يكلفنا شيئا.. بل ليعطينا ويسعدنا ويتحفنا.. يأتينا ويده بالخير طويلة، وبالعطايا مليئة، وبالمعروف باذلة، وبالكرم نافحة، وبالندى سامحة..، ثم معروفه لا يقتصر على فئة دون أخرى، أو يخص جماعة بعينها، بل يسع الصغير والكبير، ويعم الغني والفقير.. كُلَّ منتظمٍ في سلك الإسلام، ومحتمٍ بحماه.
نعم. يأتي هذا الضيف الكريم من الخيرات والبركات والبشارات بما لا يقدر ولا يعد ولا يحصى.
الحقيقة أن بركات رمضان لا تحتاج رؤيتُها إلى بصيرة.. أو إثباتُها إلى بينة، بل كل مسلم يراها -البركات – بعينيه، ويلمسها بيديه، ويعايشها صباح مساء.. ليل نهار.
إن المسلم يرى الخير والبركة في إفطاره وسحوره، وفي جميع مرافق الحياة..، يرى أن رزقه زيد فيه، ونعم الله تكثر كثرة ملموسة واضحة تجل عن العدّ والإحصاء (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها).
إنه رمضان القرآن والتلاوة، والطاعة والعبادة، رمضان البر والإحسان، والعطاء والمواساة.
يأتي رمضان كل عام، ليجدد للمسلم اتصالهَ بربه، لينقله من الجو الموبوء إلى المحيط الإيماني، ليشحن كيانه ببطارية الصلاح والتقى، ليربيه على الامتناع مما جاز وطاب فضلا عما حرم، ليستحث فيه عاطفةَ البذل، ثم ليكونَ ذلك كلُه.. بمثابة تدريبه وتثبيته في غيره – رمضان – على التخلق بالأخلاق التي تحلى بها في هذا الشهر المبارك.
لقد مُنح: «الصوم» من الأهمية والعظمة بما لم تحظ به عبادة من العبادات، حيث تولى الله بنفسه جزاءه. «عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها»، رواه البخاري ومسلم.
ما من عبادة في الإسلام لها هذه الخصوصية وهذه الحظوة كالصوم.
كما شُرِّف الصائمُ بكرامة أخرى، رفع الله بها قدره وأعلى شأنه إلى آخر ما يُتصور من الرفعة والعلو، وهي أن خُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» رواه البخاري ومسلم.
فيا لعظمة هذه الكرامة، التي خُص بها الصائمُ.
وهناك جائزتان أخريان عظيمتان أكرم اللهُ بهما الصائمَ.. جائزة معجلة.. وجائزة مؤجلة.. عبر عنهما الرسول صلى الله عليه وسلم بالفرحتين..: «للصائم فرحتان.. فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه» (رواه مسلم).
ولعله لا يخلو من الإمتاع إذا ذكرت -هنا- قصة، سمعتها أكثر من مرة، من سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله، قال: «كان هندوسي مثقف يصوم رمضان حتى في أيام الحرارة الشديدة، فكنا نتعجب، فقلنا له: نحن المسلمين نصوم لأن ربنا أمرنا بذلك، فلماذا تصوم أنت؟ ولستَ مسلما! فأجاب: إن «للإفطار» من اللذة والمتعة والفرحة ما يفوق الوصف، فأنا أصوم لهذا السبب الوحيد.. فاللذة التي أشعر بها -والكلام ما زال للهندوسي -، والفرحة التي تغمرني، والمتعة التي أذوقها عند الإفطار.. لا أجدها عند تناول أي طعام مهما كان لذيذا، وشُرب أي شراب مهما كان سائغا، فإن في الطعام والشراب عند الإفطار من اللذة والفرحة والمتعة ما لا يعبر عنه بالكلام، وما يجعلني أتحمل الجوعَ والعطش -في هذا الحر الشديد- طوال النهار».
وكان الشيخ الندوي رحمه الله يقول معلقا على القصة: هنالك أدركت-كاملا- حكمة ذكر «الإيمان» و«الاحتساب» في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (البخاري ومسلم).
رمضان الماضي:
لقد أودع الله تعالى رمضان من خصائص ما فاق به جميع الشهور، ووضع فيه لقادريه حق قدره من الأجر والثواب ما كان يجعل الكثيرين من سلفنا يستعدون له قبل شهور من مقدمه، بل قرأنا أن بعض الصالحين من هذه الأمة كانوا يقضون نصف عام تحسرا وتأسفا على انقضاء رمضان، والنصف المتبقي منه استعدادا له واستبشارا بقدومه.
كذلك كان بعضهم إذا أهل شهر رمضان، ودع أهله، وتفرغ لربه، إلى أن يطلع هلال العيد.
فكان رمضان «الماضي» يختلف عن رمضان «الحاضر» تماما..
كان نهاره عامرا بمسابقة الصائمين إلى قراءة القرآن الكريم، حتى كان بعضهم يختمه كل يوم، وبعضهم يقرأ نصفه، وهكذا دواليك، وحافلا بأعمال أخرى من الذكر والتسبيح، والبر والإحسان ومد يد الخير إلى المحتاجين.
أما الليل -من رمضان- فلا تسألوا عن حسنه وبهائه، كان يُحيٰى بالسهر المبارك المطلوب، فلا ترى فيه إلا ركعا وسجدا وخشعا، ولا تسمع إلا أصوات التلاوة، أو الوعظ والإرشاد، ولا تجد إلا المستغفرين المتضرعين إلى الله، أو المشتغلين بالدعاء والتوبة والانطراح على عتبة المعبود.
فكان رمضان «الماضي» يأتي يُذَكّر القلوبَ ويوقظها.. فيردعها من المألوفات والمشتهيات المباحة، فضلا عن السيئات والممنوعات، ويطوِّعُها للحسنات والطاعات، فتحس وتستيقظ وترتعش وتلين، وترجع إلى ربها، وتتزود بشحنة من التقوى ما يجعل أصحابها يتقون الله ويعيشون حياتهم -بعد رمضان أيضا- على حيطة وحذر وبُعدٍ عن المعاصي، وهذا هو الغرض الأكبر من رمضان..، فهو كالدورة التدريبة -حسب تعبير شيخنا الندوي رحمه الله- للمسلم، يتربى فيها على الطاعة والانقياد والخضوع لأوامر الله تعالى، والانتهاء عن نواهيه، فهذا الصوم الموقت الصغير تدريب للمسلم على الصوم الدائم الكبير عما نهى الله وزجر.
فكانت المجتمعات الإسلامية -في رمضان- تنقلب ربيعا سنويا للعبادة والتلاوة والرجوع إلى الله، تغشاها هالة من النور والروحانية، وتهب عليها النفحات الإيمانية، وتنزل عليها البركات السماوية.
رمضان الحاضر:
أما رمضان: «الحاضر».. فإلى الله المشتكى!
إنه -رمضان الحاضر- صار فرصة سانحة للعاطلين والكسالى من محبي النوم والمستريحين إلى الراحة..، كما تتوفر فيه الفرصة لعشاق الأكل لقضاء مآربهم وإشباع حاجات معدتهم..
فأما النهار فنوم إلى الظهر، بل وإلى العصر عند الكثيرين… ثم الاستعداد للإفطار..
وما أدراك ما الإفطار؟
الإفطار الجبار.. إذا ساغ التعبير..
الإفطار الأميري بل الملكي… العامرة مائدتُه بألوان وألوان مما يؤكل ويشرب من الفواكه والثمار، والحلويات والمقليات والحمضيات والمرطبات وما إلى ذلك…
الإفطار الذي يُباهٰى به ويُراءى.. ويُتكاثر ويُتفاخر..
الإفطار الذي انقلب به الموضوع -موضوع رمضان- رأسا على عقب…
بعض الظرفاء من أصحاب المزاح قالوا عندما رأوا هذا الإفطار الدسم والسحور الفاخر، اللذين عَمَّا هذه الأيام وراجا: «كأن معنى الإفطار عندهم أن يأكلوا أكلا يستدركون به ما فاتهم من الطعام والشراب طوال النهار، ومعنى السحور عندهم أن يأكلوا مراعين أنهم سيظلون جائعين طوال النهار!»
لقد حُوّل رمضانُ الصوم عن الأكل والشرب، إلى مهرجان سنوي للأكل والشرب، فتعد وجبات رمضانية خاصة -في البيوت والأسواق – تكون زينة لموائد الإفطار والسحور.
أنا لا أعترض على الاستفادة من نعم الله تعالى: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق».
ولكن كلامي موجه إلى الذين لا يهمهم من رمضان إلا تلبية نداءات بطونهم إلى حد الاتخام.. أو إراحة أجسادهم إراحة تكون ضررها أكبر من نفعها..
وكفى..
نظرا إلى اهتمام المسلمين بالطعام والشراب في هذا الشهر بالذات، اشتهر هذا الشهر باسم: «شهر الأكل والشرب»، فيسألنا بعض المواطنين من الهندوس: «متى يأتي شهر الأكل والشرب عندكم»؟
أما أمر الليل من رمضان الحاضر.. فأعجب وأنكر، وأدهى وأمر!
فليالي رمضان مطلوب فيها أن تُحيى بالسهر عبر القيام والتلاوة والاستغفار وما إلى ذلك من الصالحات.
والقوم يهتمون بالسهر في ليالي رمضان، ولكنه سهر غير مطلوب.. وفي غير إطاره الصحيح.
وإذا وضعنا النقط على الحروف: قلنا إنه سَهَرٌ عاصٍ.. غارق في المنكرات والملاهي.. يستدعي غضب الله.. فضلا عن أن يجلب رضاه..
قبل مدة قضيت رمضان في بلد عربي، فكانت وسائل الإعلام المرئية تبشر مشاهديها بأن لديها – وسائل الإعلام – برامج ضخمة للترفيه والترويح في رمضان،
وما هذه البرامج يا ترى؟ إنها مسلسلات ماجنة أو شبه ماجنة…
ما هكذا تورد الإبل يا سعد!؟
فهذا… لا يحتاج إلى أي تعليق..
إن ليالي رمضان ليست لهذا… يا أمة القرآن!
إنها لتلاوة لقرآن والدعاء وطلب الغفران..
إنها ليست للهو المرخص فيه فضلا عن الممنوع والمُحَرَّم…
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشد المئزر فيها للاجتهاد في العبادة…
وكان سلفنا يقضونها قارئين للقرآن الكريم، أو مصلين، أو مستغفرين ربهم. (وبالأسحار هم يستغفرون)
فإحياء ليالي رمضان بهذه السهرات اللاهية العابثة… ليس من المطلوب في شيء…
فلنتق الله.. ولنسهر في رمضان -وأيضا في غيره- سهرا يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولنعلم أن الليالي بصفة عامة، وليالي رمضان بصفة خاصة، وأوقات السحر بصفة أخص.. معادن تصهر فيها الرجال، ومصانع تصنع فيها العباقرة، وخلوات مباركات، ليس فيها بين الله وبين عباده حجاب، وساعات خاصة تصقل فيها المواهب والكفاءات، وتصعد الحظوظ وتسعد الجدود، وتتحقق المقاصد والغايات بالدعاء إلى الله والضراعة إليه، وإراقة عبرات الندم بين يدي رب الجود والكرم.
فالليالي -وخاصة من رمضان- فرصة ليصنع فيها الإنسان نفسه، لا ليضيعها، ليحليها بالفضائل، لا ليلوثها بالرذائل.. ليتقرب فيها إلى الله، لا ليبعد من رحمته.
حضرني الآن بيت لشاعر الإسلام محمد إقبال يشير إلى هذا المعنى:
عطار ہو رومی ہو رازی ہو غزالی ہو
کچہ ہاتہ نہیں آتا بے آہ سحر گاہی
” عطار كان أو الرومي، والرازي كان أو الغزالي.. لا ظفر لأحد بشيء.. بدون أنات السحر وابتهالاته “. (١)
أما ليالي رمضان، فلها من بركاتها الحظ الأوفر، أو قل: نصيبُ الأسد.
تعالوا: يُعِنْ بعضنا بعضا في استرداد رمضان «الماضي».. رمضان: «المفقود»، رمضان الفائض بروحه الأصيلة القرآنية.. روح: «التقوى» (يا أيها الذين كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
الهوامش:
(١) وقد ترجم بعض الفضلاء هذا البيت شعرا، فقال:
ما كان للرازي وللغزالي
والرومي والعطار من نَوال
لو لم يعانوا رغبة الصٍّياح
وصرحة الحيرة في الصَّباح
(ديوان محمد إقبال، ج١، ص٤٤٩، طبع دار ابن كثير، ط١).
(ليلة الجمعة: غرة رمضان المبارك ١٤٤٤ ھ = ٢٣ من آذار -مارس- ٢٠٢٣م).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق