ميناء بايدن واستخدام المساعدات سلاحا
في الوقت الذي تفتك فيه المجاعة بالشعب الفلسطيني، تواصل الإدارة الأمريكية الخداع لتمرير الخطط الإسرائيلية التي تهدف إلى السيطرة العسكرية على غزة وتهجير سكانها، فالميناء الذي أعلن بايدن عن تشييده لإيصال المساعدات عبر البحر من قبرص ليس إلا فكرة إسرائيلية عملت تل أبيب على تنفيذها منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي كطريق لخروج الفلسطينيين عندما أعلنت مصر رفضها فتح سيناء أمام المهجَّرين الفلسطينيين.
يُعَد الميناء الجديد خدعة أمريكية، في ظاهرها تخفيف المعاناة الإنسانية وتقديم وجبات يومية لمئات الآلاف من الفلسطينيين الناجين من القصف والنازحين في كل أنحاء القطاع شمالا وجنوبا، وفي حقيقتها استخدام ورقة المساعدات سلاحا لإذلال الفلسطينيين، وإجبارهم بالمكر السياسي والتآمر على الاستسلام، وتنفيذ الخطط الإسرائيلية والأمريكية التي عجز الاحتلال عن تنفيذها بالقوة العسكرية.
الفلسطينيون يريدون من بايدن، قبل أن يرسل إليهم شحنات رمزية من وجبات لا تسمن ولا تغني من جوع، أن يتوقف عن مساندة العدوان وقتل الفلسطينيين، فعليه أن يوقف الحرب ويوقف الجسر الجوي والبحري الذي يمد الاحتلال بآلاف الشحنات من الأسلحة، وأكثر من 100 ألف قنبلة دمرت غزة، وقتلت وأصابت عشرات الآلاف من الفلسطينيين معظمهم أطفال ونساء، وعليه أن يتراجع عن حماية القرار الإسرائيلي بإغلاق المعابر البرية.
المجاعة جزء من الخطة العسكرية
كان واضحا منذ البداية أن المجاعة التي يعانيها الفلسطينيون في شمال وجنوب القطاع مقصودة، وهي جزء رئيسي من الخطة العسكرية، فمنع دخول المساعدات من معبري رفح وكرم أبو سالم كان بتأييد أمريكي وحماية بالفيتو في مجلس الأمن، فلا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي جاء إلى معبر رفح استطاع إدخال الشاحنات، ولا أي قرار مما صدر عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة يدعو لإدخال المساعدات تم احترامه.
وحتى العدد القليل من الشاحنات الذي دخل كان يُقصف من الجو، بل وتواصل القصف لتدمير مصادر المياه وكل أسباب الحياة لتكون الحياة مستحيلة، وعندما طالبت محكمة العدل الدولية بإدخال المساعدات تطوعت أمريكا وبريطانيا وفرنسا بإسقاط بعض المساعدات من الجو بالمشاركة مع دول عربية، لتقديم شهادة دولية للمحكمة بأن “إسرائيل” سمحت لهم بإدخال المساعدت من السماء!
يستخدم الاحتلال الجوع لكسر الفلسطينيين، ويراهن على الوقت لتحقيق أمنياته المستحيلة، ويشارك الأمريكيون والأوروبيون في صنع المجاعة التي تضرب غزة، ولا يقتنع عاقل بمواقفهم المنافقة وما يظهرونه من انتقادات لنتيناهو، ومزاعمهم بأنهم لا يوافقون على حجم الضحايا الكبير! فالحكومات الغربية تدين على استحياء معاناة الفلسطينيين لامتصاص غضب شعوبهم، ومن الناحية الأخرى يتوددون لنتنياهو ويُقبّلون يديه ورجليه!
خطورة الميناء
تمرير موضوع الميناء يترتب عليه خسائر للقضية الفلسطينية، أهمها معاونة الاحتلال على تنفيذ خططه التي عجز عن تحقيقها بالعدوان والإبادة بالمناورات السياسية والخداع، فالطريق البحري يعني مزيدا من الحصار المفروض على غزة، فلا تواصل مع الضفة التي ترتبط معها باتفاقات المعابر والتصدير والاستيراد والجمارك، ولا تواصل مع مصر حيث سيُغلَق معبرا رفح وكرم أبو سالم، وستتوقف الحركة تماما من العريش حتى رفح، وستتحول المنطقة الخالية من السكان إلى منطقة عازلة لحماية الاحتلال.
لن يكون أمام الفلسطينيين في غزة من طريق غير البحر، الذي سيصبح طريق الهروب الإجباري إذا جرى اجتياح رفح، وسيُدفع الفلسطينيون من كل القطاع بالقوة النارية، ويُطردون إلى رصيف بايدن حيث توجد السفن التي ستقلهم إلى واحدة من الجزر الخالية التي سيجري تجهيزها لحين البحث لهم عن ملاجئ وتوزيعهم، وستُستدعى الأمم المتحدة المستبعَدة الآن بقرار إسرائيلي، وسيُضخ التمويل للأونروا وغيرها من الوكالات والشركات، وسيذرف مصاصو الدماء الدموع على اللاجئين المساكين وتظهر إنسانيتهم!
ميناء بايدن الذي سيبنيه الجيش الأمريكي سيكون تحت الإدارة الإسرائيلية كما أعلن بايدن نفسه، وسيتسلم الجيش الإسرائيلي المساعدات في ميناء لارنكا القبرصي وسيعيد التفتيش في الميناء العائم، ثم تسليمه إلى الجهات التي سيجري اختيارها -وليست حماس- على الرصيف الذي سيجري إنشاؤه على الشاطئ، أي تنفيذ الخطة الأمريكية الأصلية التي طُرحت في بداية العدوان، وهي تشكيل إدارة تابعة للإسرائيليين بديلة لحماس!
لن يستطيعوا كسر الصمود الفلسطيني
يريد الأمريكيون والإسرائيليون نزع سلاح غزة واستبعاد حماس بشكل عملي، باستخدام ورقة المجاعة واستشهاد المزيد من الجوعى للضغط على الفلسطينيين، لتأسيس إدارة من العملاء لتسلُّم المساعدات وتوزيعها تحت حماية الجيش الإسرائيلي، وهناك اتفاقات مع دول عربية جهزت العناصر المطلوبة، بل يراهن نتنياهو على بعض الحكومات المُوقعة على اتفاقات أبراهام لتقديم قوات عربية لمساعدة الإسرائيليين.
ولكن كما فشلت كل خطط الاحتلال العسكرية ستفشل خطة استخدام المساعدات سلاحا أمام الصمود الفلسطيني الأسطوري، فالفلسطيني الذي بقي في بيته يرفض التهجير، لا يخاف الموت وينتظر الشهادة، لن تضحك عليه أمريكا بوجبة رغم احتياجه إليها، وتنبع قوة حماس وبأسها من شعب غزة الأشد صلابة، وكما نجحت حماس وحاضنتها الشعبية في كسب المعركة العسكرية والإعلامية فإن الميناء إن لم يستفد منه الشعب الفلسطيني فسيكون مصيره مثل كل الخطط السابقة التي فشلت.
ولأن حماس تعي ما يدبّره الاحتلال ومعاونوه، فقد حذر مسؤول أمني بالحركة من يفكرون في الخيانة والمشاركة مع الاحتلال في مؤامرته، وقال في بيان تحذيري “قبول التواصل مع الاحتلال من مخاتير وعشائر للعمل بقطاع غزة خيانة وطنية لن نسمح بها”، وأكد أن “سعي الاحتلال لاستحداث هيئات تدير غزة مؤامرة فاشلة لن تتحقق”.
الحقائق على الأرض تؤكد أن الكلمة في غزة لحماس وفصائل المقاومة، وليست لـ”إسرائيل” ولا لأي دولة تتآمر في العلن أو الخفاء، لكن الصمود الفلسطيني يحتاج إلى دعم عاجل اليوم قبل الغد، وضرورة دخول عنصر أو طرف جديد يُحدث فارقا استراتيجيا يقوي ظهر المقاومة، ويُحدث خلخلة في الموازين العسكرية.
قد يظنون أن الأساطيل والحشود العسكرية كافية للتخويف، لكنهم لا يدركون أن مشاهد الإبادة والمجاعة التي تراها شعوب العالم على الشاشات تزيد من درجة الغليان يوما بعد يوم في كل أنحاء الأرض، وأن الانفجار سيحدث في لحظة لا يتوقعونها، وفي دول ظنوا أن شعوبها وقواها الحية قد ماتت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق