الخميس، 4 أبريل 2024

كان "الطوفان" للأقصى وسيبقى

كان "الطوفان" للأقصى وسيبقى


حلمي الأسمر

يرى المراقب لما يجري في ساحات الإعلام الشعبيّ ومنصّات التعبير المُحَوسَبَة أنّ هناك محاولة مستميتة لتصدير الأزمة الصهيونية الطاحنة إلى الشارع العربي، عبر تشغيل ملايين حسابات الذباب الإلكتروني الهادف إلى شقّ الصفّ العربي، وتحويل التأييد الجارف للمقاومة الفلسطينية البطلة، إلى معركة عربية – عربية، وقودُها ذباب أعمى يحرّكه الذكاء الاصطناعي، ويأتمر بمحرّكات تعمل في الظلام، لإشعال نار الفتنة وقطع الطريق على أي حراكٍ شعبيٍّ هادر يردف المقاومة، ويحمي ظهرها، ويمدّها بما تحتاجه من إسناد ولو كان وجدانياً، وهو أمرٌ لا يقلّ عن الإسناد المادي بالسلاح والعون الطبي والإغاثي.

الشارع العربي، منذ اليوم الأول لانطلاق "طوفان الأقصى"، شخص ببصره للمقاومة التي أنجزت في ساعات ما لم تستطع أن تنجزه كلّ الدول العربية والإسلامية في سنوات، وهو أمرٌ يُحسب لها لا عليها، ومن المُشين والمُعيب أن تنزلق بعض التعبيرات إلى وصف هذه المقاومة بأوصاف سخيفة مصنوعة في مختبرات العدوّ، ومن أسفٍٍ أن بعض الجهّال والسطحيين يتلقفون الطُعم الصهيوني، ويردّدون الروايات الصهيونية ومن يساندها بلغة عربية مشبّعة بالأحقاد الصغيرة، التي تستدعي أيام الفتن والمحن السابقة.

كل المعلومات تقول إنّ أياماً عصيبةً جداً يعيشها الكيان الصهيوني، إذ تطحنُه الأزمة الأكثر خطورة منذ قيامه، ولهذا يحاول أن يُشغّل كلّ إمكاناته لتبديد أي جهد عربي أو إسلامي، شعبياً كان أو رسمياً، لمنع إسناد المقاومة ودعمها حتى ولو بالجهد المعنوي، والمفترض هنا أن يتجنّد عقلاء الأمة كلّهم للتصدّي لهذه الفتن والتحلّي بأعلى درجات الحكمة، ولا يعني هذا أبداً التوقّف عن إسناد المقاومة بكل جهد ممكن، بل الانصراف بالكلّية نحو الهدف الأسمى، وعدم الانتباه والانشغال بما يثار من سفاسف ونتوءات تافهة.

خُذلان غزّة في معركتها المصيرية اليوم هو خذلان للوطن العربي كلّه

خُذلان غزّة في معركتها المصيرية اليوم هو خذلان للوطن العربي كلّه. تقف غزّة اليوم على خط الدفاع الأول عن الوطن الكبير، وفي حال هُزِمَت المقاومة، لا سمح الله، ولن تهزم بعونه تعالى، فستكون استحقاقات هذه الهزيمة شديدة السواد والسوء على كل الوطن العربي. ما يجري في غزّة وفلسطين كلها معركة كل العرب والمسلمين وليست معركة الفلسطينيين، وأي فهم يحاول المُرجفون ترويجه خارج هذا الإطار هو محض افتراء، ويصبّ في خدمة الاستبداد وأنظمته، التي يسرّها أن ترى هزيمة شعب مقاوم كي لا تترسخ أمثولة قدرة الشعوب على التغيير والانتصار والإنجاز، والأهم أن تبقى منظومة الاستبداد تسود المشهد.

أما ما يقال عن "انحراف" الحراك العربي الشعبي، ودخوله مناطق محظورة في التعبير، وخرقه ما يسمى "السقوف" المحتملة، فهو يعود إلى البشاعة المفزعة التي يرتكبها العدوّ الصهيوني في فلسطين، وهو أمر يُفقد أي عاقل اتّزانه، ويدفعه دفعاً قوياً إلى التعبير بشكل مختلف عن مشاعره، خصوصاً أن تلك البشاعة الصهيونية لم تُواجَه بما تستحقّ من النظام العربي الرسميّ على العموم، الذي لم يقف عند حدّ خذلان فلسطين وشعبها، بل ذهب بعضُه إلى أبعد من هذا عبر إسناده العدوان بأسباب الحياة، وهو أمر يدفع المرء إلى الجنون، ويمنعه من عدم التسامح مع موقفٍ كهذا. إنّ الجرح الذي أصاب الضمير الجمعي العربي جرّاء هذا الموقف المخزي أكبر من أن يتسامح معه جمهورٌ متّزنٌ وعاقل. أكثر من هذا، يشعر هذا الجمهور أنّ ظهره أصبح مكشوفاً للعدوّ على نحو صارخٍ، فما الذي يضمن له ألا يمتد إليه العدوان الصهيوني البشع بعد أن يفرغ من بشاعاته في فلسطين؟ لهذا يتحرّك الجمهور العربي الغاضب بدافع الدفاع عن النفس، فهو إذ يدعم غزّة وفلسطين ومقاومتها، يدعم نفسه ويحتاط لأي عدوانٍ محتمل قد يناله أيضاً. وبهذا المعنى، هو يقف مع نفسه، إذ يقف مع فلسطين ومقاومتها.

يرى الجمهور العربي صباح مساء كيف وقفت شعوب العالم في أصقاع الأرض كافّة مؤيّدة ومنتصرة للشعب الفلسطيني

وإلى هذا وذاك، يرى الجمهور العربي صباح مساء كيف وقفت شعوب العالم في أصقاع الأرض كافّة مؤيّدة ومنتصرة للشعب الفلسطيني، ناصرْته بالتظاهر والتضامن، وتبدع كل يوم في استيلاد أساليب جديدة لمحاصرة العدو المجرم وداعميه في بلادها، ولا يكاد يومٌ يمرّ إلا وترى زخماً شعبياً يناصر فلسطين، حتى لو قوبل هذا الزخم بالقمع والمواجهة الخشنة من سلطات الأمن، وقوانين ما تُسمّى "اللاسامية" المجحفة التي تعتبر كل نقد لجرائم العدوّ الصهيوني أو لسياسات الكيان الفاشي فعلاً لاسامياً يستحقّ المقاضاة والملاحقة والعقاب، ولا يمنعها هذا عن استمرار التظاهر والرفض للعدوان. ولئن كان هذا ديدن شعوب الأرض الحرّة التي لا يربطها بشعب فلسطين لا دينٌ ولا عرقٌ ولا ثقافة، فكيف بشعبٍ عربيٍّ يربطه مع شعب فلسطين دين وثقافة ومصير مشترك؟

ولعل الأهم من هذا كلّه أن "الطوفان" ارتبط منذ اليوم الأول بعقيدة المسلم، فكان "طوفان الأقصى"، انتصاراً لمسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مقاتلوه جنداً لله، نذروا أنفسهم لنصرة دينه، فكيف بمن يحمل ذرّة إيمان من دين أو شعور إنساني ألا يكون مع هذا الطوفان، حتى لو كان للنظام العربي الرسميّ رأي آخر؟

المطلوب اليوم من كل مواطن عربي حرّ شريف أن ينتبه إلى الأخطار القادمة، وأن يوجّه بوصلته إلى الأقصى وحماته، ومن هم حوله من بلاد خصّها الله بالقداسة والمباركة، وأن ينشغل بما يدعم هذه القضية، متعالياً فوق كلّ من يبدد الجهد ويُذهب الريح، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق