خيارات حماس في مواجهة الاستئصال
تحدثتُ في المقال السابق عن التهديد الوجودي الذي تمثله حرب غزة على المستقبل السياسي، لكل من رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، والرئيس الأميركي جو بايدن وحركة حماس، وهذا التهديد يدفع الأطراف الثلاثة لمواصلة الحرب حتى تحقيق الانتصار، وهذا الأمر يمثّل مشكلة كبيرة بالنسبة لحركة حماس التي تواجه تحديات كبيرة داخلية وخارجية من حولها تزيد من صعوبة تحقيقها الانتصار، وخاصّة تعدد الأطراف التي تعمل على هزيمتها، وتسعى لاستئصالها.
وفي مواجهة هذا التهديد الوجودي تقف حركة حماس ومن ورائها المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة أمام خيارات محدودة غاية في التعقيد والصعوبة، فأي هذه الخيارات سيكون الأكثر ملاءمة بالنسبة لها والأقل تكلفة؟
رغم التكلفة الباهظة لخيار المقاومة حتى الرمق الأخير، فإنه الخيار الوحيد لدى حماس، القادر على تحقيق النصر للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني في قطاع غزة
الخيارات الصعبة
أشرنا في المقال السابق إلى ثلاثة خيارات تفرض نفسها على حركة حماس، سنتناول كلًا منها من زاويتين: إمكانية تحققها، والتكلفة المترتبة عليها.
الخيار الأول: الموافقة على هدنة إنسانية مؤقتة دون اشتراط وقف نهائي وشامل لإطلاق النار
منذ أكثر من شهرين، والمحادثات جارية بين الكيان الصهيوني وحركة حماس عن طريق الوسطاء في كل من الدوحة والقاهرة، للتوصل إلى هدنة إنسانية؛ تهدف إلى تقديم المساعدات الإنسانية والإفراج عن الأسرى، إلا أن هذه المحادثات وصلت إلى حائط مسدود؛ بسبب إصرار حركة حماس على شرط إيقاف نهائي وشامل لإطلاق النار، وانسحاب الجيش الصهيوني إلى خارج قطاع غزة، وبسبب رفض الكيان الصهيوني المبدئي هذا الشرط، لا تزال المحادثات جارية للتغلب على هذا الشرط، فهل ستنتهي بموافقة حماس على الهدنة المؤقتة؟
الإمكانية
لا تستطيع حماس التنازل عن هذا الشرط؛ لأنه ببساطة يعني موافقتها على حكم الإعدام، وإعطاء التحالف الصهيو-أميركي الحق في مواصلة العمليات العسكرية لتحقيق هدف القضاء عليها.
التكلفة
التنازل عن هذا الشرط أمر باهظ التكلفة يتمثل فيما يأتي:
تمكين التحالف الصهيو-أميركي من فصل المدنيين في مناطق إيواء خارج ساحات المعركة، ومناطق الاشتباك، وإنهاء الدور الإداري والأمني لحركة حماس والمقاومة في صفوف النازحين الذين سيخضعون لترتيبات خاصة لم يتم الإعلان عن تفاصيلها بعد، تشارك فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وبعض الدول العربية. تمكين التحالف الصهيو-أميركي من إحكام الخناق على حركة حماس والمقاومة من كافة الجوانب. إخلاء ساحة المعركة من المدنيين، وإفساح المجال أمام الكيان الصهيوني للانفراد بحركة حماس والمقاومة، في عمليات قتالية تعتمد على تكتيكات جديدة وإستراتيجية عسكرية تعتمد على طول النفس، قد تمتد لسنة أو سنتين على الأكثر، حسب تقديرات قادة الجيش الصهيوني؛ إستراتيجية تراعي مطالب الإدارة الأميركية ومحكمة العدل الدولية والأمم المتحدة في الحفاظ على المدنيين، وتوفير المساعدات اللازمة لهم.
لا تستطيع حماس التنازل عن شرط الإيقاف النهائي والشامل لإطلاق النار؛ لأنه يعني موافقتها على حكم الإعدام، وإعطاء التحالف الصهيو-أميركي الحق في مواصلة العمليات العسكرية لتحقيق أهدافه
الخيار الثاني: الاستسلام والانسحاب من قطاع غزة ضمن ترتيبات إقليمية ودولية
هذا الخيار كان مطروحًا أمام حركة حماس منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وقد أدارت له ظهرها في حينه، ولم تتجاوب مع الجهات التي نادت به. وهو خيار مازال العديدُ من الجهات الرسمية وغير الرسمية، يطرحه، كخيار سريع لإيقاف إطلاق النار، وإنهاء الأزمة المتفاقمة في قطاع غزة، على غرار ما حدث مع حركة فتح ومنظمة التحرير، عندما قبلت بإيقاف الحرب، مقابل الانسحاب من لبنان في حرب عام 1982م بعد أكثر من 80 يومًا من القتال.
الإمكانية
من المستبعد تمامًا أن يكون واردًا في حساباتها في هذه المرحلة، لأنه يمثل انتحارًا تنظيميًا وعسكريًا وسياسيًا وفكريًا واجتماعيًا، وسيكون قبولها به اعترافًا مباشرًا بارتكابها خطأ سياسيًا وعسكريًا فادحًا، يحمّلها مسؤولية الثمن الباهظ الذي دفعه قطاع غزة في الشهور الثلاثة الماضية على الأقل.
التكلفة
ستكون خسارة حماس والمقاومة في هذا الخيار باهظة جدًا، يتمثل أبرزها فيما يأتي:
انتصار التحالف الصهيو-أميركي في المعركة وتمكينه من قطاع غزة، وإفساح المجال أمامه لتنفيذ مخططات اليوم التالي في القطاع بما يتوافق مع مصالحه القريبة والبعيدة، والتحكم الكامل بتفاصيل ما سيجري دون السماح بأي تدخل عربي أو إسلامي. تصفية كاملة للوجود الإداري والأمني والاجتماعي لحماس والمقاومة في قطاع غزة. حل فصائل وكتائب المقاومة المسلحة. حدوث انشقاقات تنظيمية في الكيانات العسكرية والسياسية. انهيار الأسس الفكرية التي قامت عليها هذه الكيانات. تحمّل المسؤولية عن كل الخسائر التي تكبّدها قطاع غزة في هذه الحرب والحروب السابقة. تراجع المكانة السياسية في المشهد السياسي الفلسطيني، والمكانة الاجتماعية في صفوف المجتمع الفلسطيني، والمكانة العاطفية في صدور الشعوب العربية والإسلامية.
الخيار الثالث: المقاومة حتى الرمق الأخير
هذا الخيار يقتضي مواصلة حماس التمسك بشروط الإيقاف الدائم والشامل لإطلاق النار، وانسحاب الجيش الصهيوني من جميع أراضي قطاع غزة، ومواصلة المقاومة لإجبار الكيان الصهيوني على القبول بهذه الشروط.
الإمكانية
رغم التكلفة الباهظة لهذا الخيار، فإنه الخيار الوحيد المتوفر في يدها، وتسيطر عليه بصورة كاملة حتى الآن. وهو الخيار الوحيد الذي سيصنع النصر للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني في قطاع غزة ولحماس والمقاومة المسلحة، وسيحافظ لها على زخمها السياسي والعسكري والفكري والاجتماعي.
فضلًا عن أنه الخيار الوحيد أمامها لتأكيد التمسك بالحقوق وشرعية المقاومة وجريمة الإبادة الجماعية الصهيو-أميركية في حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والمحافظة على التأييد الشعبي العالمي للقضية الفلسطينية ومطالبها العادلة، وهو الخيار الوحيد الذي سيواصل تحريك التفاعلات والتداعيات الإقليمية والدولية المفتوحة حاليًا على الكثير من الاحتمالات والتوقعات.
التكلفة
ستكون الخسارة المادية في هذا الخيار هي العليا بين بقية الخيارات، ويتمثل أبرزها فيما يأتي:
استمرار عمليات القصف والتدمير الصهيونية وبمعدلات أكثر ضراوة وهمجية مما سبق، بهدف زيادة الضغط على حماس والمقاومة وإجبارهما على الخضوع لشروط التحالف الصهيو-أميركي. استمرار الخسائر البشرية في صفوف المدنيين، والتي بلغت معدلات غير مسبوقة إلا في حالات الأوبئة والزلازل والقنابل الذرية. استمرار معاناة المدنيين من النازحين، ومن الصامدين وسط ركام بيوتهم المدمّرة، بلا ماء ولا غذاء ولا كساء ولا دواء. زيادة الضغط اللوجيستي على فصائل المقاومة، مما سيزيد من قسوة ظروف العمليات العسكرية، وخاصة مع طول المدة، وانعدام الإمداد. قيام التحالف الصهيو-أميركي بتنفيذ عملياته العسكرية في مدينة رفح، والتي ستفتح المجال أمام سيناريوهات جديدة خاصة بالنازحين، تبدو حاليًا مجرد تكهّنات ومعلومات غير مؤكدة.
تظلّ هذه الخيارات الثلاثة ليست نهائية، ولكنها حاليًا الأكثر حضورًا أمام حماس والمقاومة المسلحة في قطاع غزة، في محاولة لمواجهة عمليات الاستئصال التي يقوم بها التحالف الصهيو-أميركي وشركاؤه الإقليميون والدوليون، وذلك في ظلّ سير العمليات العسكرية والإنسانية والجيوسياسية على الأرض في قطاع غزة، وفي ضوء السياق الإقليمي والدولي الذي يخضع حاليًا لعوامل عديدة، قد تعيد ترتيب المعادلات والأولويات لدى جميع الأطراف، وقد تقودُه إلى الانفجار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق