الأربعاء، 26 فبراير 2025

أيّاما معدودات.. جنة النُّسّاك في فلسفة الإمساك

 أيّاما معدودات.. جنة النُّسّاك في فلسفة الإمساك


ها قد أهلّ علينا شهر الله الكريم رمضان، حيث تأخذ الأيّام بليلها ونهارها نفحات إيمانية وصورا تعبدية، فتتزين مساجدنا وبيوتنا بجنّة القرآن، ونستذكر معه سيرة خير الأنام وصحبه الكرام، ومتى حلّ رمضان ضيفا علينا، استنارت الأفئدة وصامت الألسنة، وتضافرت الجهود وطافت الشهود، وصُفدت المردة وحجّت البررة، واعتمر العبّاد واغتنم الزهاد، وامتلأت الصحائف حتى ترضى، وقرّت عيون الدجى، فلا الكريم ناكر، ولا الغني قاصر، ولا الفقير معسر، ولا العاصي مقصّر.

ونحن إذ يقبل علينا الشهر الفضيل، نفر إليه مبتهلين راغبين، متحللين من سهو الأقوال بصفوة الأعمال، وما الصيام إلا باب لمعرفة الساعي توحيد ربه، ومنزلة تتجلى معها الحكمة في تكليفه، فلا الامتناع عن الطعام يغني، ولا الإمساك عن الرفث يجدي، ما لم تكن نية الناسك خالصة للهادي، ومن فهم غاية كتابة أمر الصيام، وردّها إلى حقيقة تقوى قلوب الأنام، تداعت جوارحه لتنهل من بيّناته وآلائه الجسام، فهي أيّام معدودات للذين يطيقونه، ليثوّب الراسخون بحلمه.

وهذا المقال إنّما بضع كلمات، تحملها حروف تجري بالعبارات، فتوقف رحمك الله عند بعضها بالإنصات، واستمع لما يتلوه النسّاك في محراب الصلوات.

الامتناع عن الشيء لا يقع إلا بالإكراه وحدوث الضرر، فهو موضوعي مرتبط بالأمر أو النهي، بتحقيق غير المرغوب فيه، كشرب الدواء المر وقتال العدو، أما الإمساك فغرضه تحقيق التعلق الوثيق بمكاشفة النيّات والسير نحو منازل المحبين

فلسفة الإمساك

يشترط على الصائم الإمساك عن الطعام والشراب والرفث إلى النساء، والإمساك يرجعه البعض إلى الامتناع عما حُرّم على الخلق تكليفا، لا اجتهادا منهم، لكن أيمثل الامتناع عن الطعام والشراب غاية الصيام التي خصّها المولى بعظيم الجزاء، أم إنّ الإمساك عن الضرورات ما هو إلا تجلٍّ لعمل القلوب التي هي محل نظرة الرب، إذ إنّ الصيام لا يكون عن الطعام والشراب فحسب، بل يمكن أن يتجاوز تفسيره المادي إلى تحقيق معنى التقوى بمخالطة الأخلاق السامية، ولعل قول السيدة مريم عليها السلام حين نذرت الصوم بأن لا تكلم إنسيا، ما جاء إلا بعد ما تغشّاها من حزن، حين ابتليت واتهمها قومها في عرضها، وكلّفت بحمل بشارة ميلاد المسيح عيسى عليه السلام، وعلى قدر الابتلاء تأتي البشارات.

والامتناع عن الشيء لا يقع إلا بالإكراه وحدوث الضرر، فهو موضوعي مرتبط بالأمر أو النهي، بتحقيق غير المرغوب فيه، كشرب الدواء المر وقتال العدو، أما الإمساك فغرضه تحقيق التعلق الوثيق بمكاشفة النيّات والسير نحو منازل المحبين، وبه تتجاوز النفس البشرية اغترابها الموحش والمربك لطبيعتها؛ لذلك كانت أسمى قيم الصيام أن تتلخص مكاشفة النفس لعالم الغيب عبر تحقيق التكليف الطوعي لها، فأن تمتنع عن الطعام والشراب ما هو إلا أيّام معدودات، تمضي بها نحو الأنس بلذة الطاعة والتخلي.

من أجل ذلك كان تحقيق مراد الإمساك عن الطعام والشراب، متعلق بعمل القلب تجاه مكاشفة العبادة المنصوص عليها، ومدى امتثال الصائم لأوامره سبحانه، إذ يمكن فهم الإمساك بالتخلي ليس عما نملك ونعايش فحسب، بل عن الرغبة المتجددة والشهوة المتمكنة، إذ مربط القلوب حاجاتها إلى الجوارح وهي تنهل مما يدفعها إليه الفؤاد نحو نهايته. وقد يساق الامتناع عن لذة الحياة كتعريف هامشي لجوهر الصوم، إلا أنّه يختلف نوعا ما عن الإمساك الذي يفضي إلى خصوصية الارتباط الوثيق بجوهر العبادة، والتي هي محل نظرة الخالق سبحانه.. ألم يقل نبينا عليه الصلاة  والسلام محدثا عن ربه: "الصوم لي وأنا أجزي به"؟

ولعل القصد من الحديث ليس التخلي عن الطعام والشراب، وإن كان ظاهر العبادة تلك احترام شعيرة الصوم وقدسية الشهر العظيم، إلا أنّه جمع كمال الاعتقاد بوحدانية الخالق وسببية الوجود، مع مكاشفة النفس لمنزلة التقوى، ومعنى "لي" أن لا شريك لله في هذا العمل الذي يختبر النفس البشرية المكلفة، وقدرتها على الامتثال، ليس من طلوع الشمس إلى غروبها، بل بحقيقة إيمانها ويقينها بوعد الآخرة.

وقد يسأل أحدهم: لماذا يصوم المسلمون شهرا كاملا؟ ليجيب بعضهم إنّه الركن الرابع في الإسلام، أو شعيرة فرضها المولى على المسلمين تكليفا لهم، أو سينبري قوم يعرضون على الملأ فوائد الصيام الصحية للبدن، أو تلك التي ترسم ملامح التضامن الإنساني بينهم، لكن الصوم قد وسّع تلك الدلالات الضيقة، وتجاوز التفسيرات المادية؛ إذ إنه يعيد النفس المكلفة إلى ذاتها، ليبصرها عيوبها، مقتفية عثراتها لوحدها، من دون الحاجة إلى الإمعان في تقاليد وطقوس باهتة، ولعل الصوم -وإن اختلفت تمثلاته لدى العقائد الأخرى- رسّخ جوهر الإمساك ليس في كونه الحرمان من اللذة، بل بالتسليم إحسانا واستمساكا بالعروة الوثقى. وجواب الأمر الأوّل أنّ تجربة صيام أيّام معدودات تعيد تفسير الفرد وصياغة المجتمع، وتجابه حضارة موغلة في ماديتها.

لنا في شهر رمضان آيات عظام، وخلوات جسام، وحسن مقام، فمن آوى إلى مكاشفة نفسه، واستسقاها من فضله، وصدق في عزيمته، وانتقى لها أجود الأعمال، وأحسن الأقوال، كان لزاما أن تنقى سريرته، ويرفع عنه جوره، وتمحى خطيئته

رياضة النفس

هي الأجساد تركض خلف اكتمال دورة حياتها، فلا تدري أيّ مستقر سيخلد الإنسان فيه، ومن سيرحل عنه بعدما أوى إليه وقتا طويلا، ولعل الناس في هذا الزمان الباعث على الحيرة والاشتياق، وعلى الفقد والنكران، قد حجوا إلى حيث الدنيا تأخذ زخرفها ولهفتها في الاستمرار، إلا القلّة الباقية ممن وهبهم الخالق فضله في التخلي، والرضى بما قسمه لهم من منح الحياة، وعوّضهم عنه بخالصة الدار.

هي القلوب تتقلب بين القبول والرفض، أنّى لها أن تدرك فضل الآخرة ما لم تستشعر شيئا ولو يسيرا من تجلياتها وأماراتها؟ وعلى قدر مكاشفة نية المكلّف يكون جزاؤه، إذ كل عمل ابن آدم مرهون له، إلا الصوم فهو لمن أبدع الخلق، وأحسن تصويره، وأتقن كل شيء وعلم مآله، وليحل علينا شهر الله العظيم منحة لنا، كي يطهّرنا من لوعة الدنيا ودنسها، إلى حيث النعيم تزينه جنات عدن، وما ظنكم بمن وعد أنّ الجزاء عنده، وهو أكرم الأكرمين، والحالم عمن جاءه متضرعا؟

هذه الكلمات الموجزات تذكرة لي ولأصحابنا، ممن أهّل عليهم الشهر الفضيل ضيفا، أن يكرموه بالطاعة، ويجازوه بالصدقة، ويستأنسوا بتلاوة قرآنه، آناء الليل ومن النهار أطرافه، فما الشهر من الزمن إلا ساعة، فيها يعتق المرء أو يرغّم في التراب، وحسبنا أن نستودعكم الله في نياتكم وأعمالكم، فهو خير معين والركن المتين.

إنّ لنا في شهر رمضان آيات عظام، وخلوات جسام، وحسن مقام، فمن آوى إلى مكاشفة نفسه، واستسقاها من فضله، وصدق في عزيمته، وانتقى لها أجود الأعمال، وأحسن الأقوال، كان لزاما أن تنقى سريرته، ويرفع عنه جوره، وتمحى خطيئته، فما الصوم إلا آية الله في الإنسان، وحكمته الجلية على النفس البشرية، فإن أدركت مقاصده، وانتفعت بمعانيه، سرّها النظر إلى وجهه الكريم، إذ إنّ رياضة النفس الاعتناء باعتقاد القلوب، والسهر على تسليتها بالطاعة ومخالطة أولي الألباب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق